عتبة المؤلف



يعتبر محمد عزالدين التازي من رواد رواية الطليعة في أدبنا المغربي المعاصر، وذلك بمجموعاته القصصية ورواياته التجريبية منذ فترة السبعينيات إلى يومنا هذا

ولد الكاتب بمدينة فاس سنة 1948م، درس الابتدائي في المدرسة الأميرية ، إحدى مدارس الحركة الوطنية، والتحق بثانوية القرويين، فدرس الأدب القديم وعلوم اللغة،ودرس أيضا الثقافة الغربية وترجمات الأدب العالمي. نشر أول قصة قصيرة وبعض المقالات سنة1966م، وهو تلميذ بالثانوي. وتابع دراساته الجامعية بكلية الآداب بفاس، واستكمل فيها دراساته الأدبية الجامعية حتى حصل على درجة الدكتوراه في السرديات. وقد مارس التدريس بالتعليم الثانوي و كلف بتأطير الطلبة الأساتذة بالمدرسة العليا للأساتذة بتطوان. وكان عضوا فعالا في اتحاد كتاب المغرب واتحاد الكتاب العرب بدمشق والمكتب التنفيذي لرابطة أدباء المغرب، وهيئة تحرير مجلة دفاتر الشمال، وهيئة تحرير سلسلة إبداعات شراع

وقد كتب الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والمسرحية، كما كتب للأطفال. وقد ترجمت بعض أعماله إلى الفرنسية والإسبانية والهولندية والفلامانية والإنجليزية، وحاز على جائزة المغرب للكتاب سنة 1997م ، بعد أن حاز على جائزة فاس للثقافة والإعلام سنة 1996م




عتبة العنوان

إن المباءة في اللغة اسم مكان على صيغة مفعل أو مفعلة. وهي عبارة عن المنزل بصفة عامة؛ لأن الإنسان أو غيره يتبوأ فيه مكانا يلوذ به ويحميه، وقد أنذر الرسول( صلعم) من يروي الأحاديث المزيفة والمختلقة وينسبها إلى شخصيته الكريمة، فقال:" فليتبوأ مقعده النار". وهذا دليل على أن المباءة دالة على المكان أو المجلس أو المقعد. ومباءة الرواية هي فاس التي أصابها تحول غير وجوده ساكنتها من رجال ونساء وأطفال وصبايا. إنه طاعون المرض الذي شوه خلقة أهالي فاس وشوه جمالهم الذي كان يتغنى به أصحاب الملحون" الزين الفاسي:" المباءة

وقد تطبعت مدينة فاس الموبوءة بالتحول الغريب والتغير الفانطاستيكي القائم على المسخ والتشويه العجائبي، وقد عبر السارد على المسخ والتشويه بطريقة شعرية قائمة على التكرار والطباق والتقابل والتضاد والالتفات الزمني والتغير الإيقاعي في السرد: "والمدينة اليوم تتغير
تغيرت وجوه سكانها

الشيوخ والشبان والصغار، النساء والصبايا، كلهم صارت وجوههم ذات تجاعيد حلزونية، مع انتفاخ باد. بقع ليست كالبرص ولكنها تشبه قشور صدف المحار. حلزون أو محار.؟ تحلزت الوجوه وغطتها طبقة من قشور منطفئة كأنها نبت القواد في جناح عصفور

وينبني المكون الفضائي على ثلاثة مرتكزات أساسية وهي

فضاء المباءة الذي يحيل على الداء؛
فضاء السجن الذي يمثل العذاب؛
فضاء الضريح الذي يشير إلى الموت
ويتبين لنا من خلال كل هذا، أن الرواية تشتغل على الفضاء تأزيما وتحريكا للأحداث عبر مسار البرامج السردية على المستويين: السطحي والعميق


عتبة المعمار النصي


تستند رواية المباءة لمحمد عزالدين التازي إلى معمارية ثلاثية قائمة على التوزيع التيماتيكي والفصلي
وهكذا نلاحظ أن الرواية ذات معمار ثلاثي دائري مغلق في بنائه الحلزوني، تبتدئ فضائيا بالضريح وتنتهي إليه عبر فضاء السجن، أي من فضاء الموت إلى نفس الفضاء عبر فضاء التعذيب والتطهير والتنكيل ومصادرة حقوق الإنسان وكرامته وحريته في إبداء الرأي والجهر يالحق أو الصدع به


عتبة المقتبسات


يستهل الكاتب فصول الرواية أو أقسامها الثلاثة الكبرى بمقتبسات توضيحية. ففي بداية الفصل الأول نجد مقتبسا صوفيا لابن ضربان الشرياقي يتحدث فيه عن الإنسان العارف والفقيه المجذوب والرجل المتنور في عصرنا. فالعارف في زمن المباءة هو رجل الوجدان والحال وصاحب المقامات على الرغم من عماه أو سكوته. فالمعرفة اللدنية العرفانية لاتتم بالمحسوس المادي ولا بالعقل، بل بالقلب والمشاهدة الروحية. وبعد ذلك، يتحدث الكاتب عن الكأس الصوفية وانتقال قاسم من عالم الرؤية والحس إلى عالم الغياب والأحوال والمقامات الوجدانية. ويعقب هذا المقتبس الصوفي مقتبس فلسفي لنتشه فيلسوف القوة والوجود والرفض الذي أقر فيه بأن الإنسان المتفوق هو الذي ابتلاه الجنون والاشتعال الوجداني. وهذا ما أثبته باسكال عندما أكد عقلانية المجنون باعتباره أكثر الناس عقلا
ويستهل الكاتب الفصل الثاني بمقتبس لنتشه، وهو مأخوذ من كتابه"هكذا تكلم زرادشت" طالبا فيه الرفاق أن يقتنعوا بمبادئهم ومواقفهم ويصلون إليها عن طريق ممارساتهم الإبداعية وتجاربهم الشخصية دون أن يكونوا نسخا مستنسخة أو عقولا مطبوعة بمواقف الآخرين


وينهي الكاتب الرواية بمقتبس فلسفي لنتشه يضعه في مستهل الفصل الأخير " الضريح" ليتحدث بلسان الشعب التزاما وتعبيرا عن قضاياهم في مواجهة تأنق التبرجز ونفاق الأسياد وكذبهم وزيفهم

وهكذا نجد الكاتب يمزج الخطاب الفلسفي بالخطاب الصوفي أو ماهو وجداني بماهو عقلاني على مستوى المقتبسات النصية استشهادا وتوضيحا وبيانا وتوكيدا وإحالة وترميزا علاوة على جمعه بين خطاب الروح اللدنية وخطاب القوة الوجودية. وأصبحت ظاهرة المقتبسات النصية من سمات الرواية الحديثة، وبدأت تظهر في كثير من النصوص الروائية الجديدة والمعاصرة ،ولاسيما روايات بنسالم حميش في رائعته" مجنون الحكم



المتن الحكائي أو القصصي


تصور الرواية مباءة الفضاء والأشخاص، وتركز على قاسم الورداني الذي اشتغل مدة سبع عشرة سنة مديرا للسجن المدني بفاس، بعد أن خاض حروبا في الهند الصينية دفاعا عن الحقد الفرنسي وعلٓمه الإمبريالي. وقاسم معيل أسرة تتكون من زوجة اسمها رقية وابنة تسمى نعيمة وولد اسمه منير. يسكن داخل السجن بجوار"باابرهيم" والمقتصد الذي كان ينهش عظام المسجونين حيث يأخذ طعامهم ويدخله إلى منزله دون أن يتدخل المدير أو أن يقف في وجهه باعتباره رئيسه الأعلى

هذا، ولقد كره منير وظيفة أبيه لأنه كان ينظر إليه على أنه سجان الآدميين يصادر حقوقهم ويقوم بتعذيبهم دون رحمة أو رأفة. كما كان منير ينفر من الفضاء الموبوء المميت الذي كان يوجد فيه منزلهم وسط السجن باعتباره فضاء عدائيا يثير اشمئزاز الآخرين وامتعاضهم منه




وكانت علاقة منير بأبيه علاقة صراع وجدال وتناقض حول الكثير من القضايا أهمها: قضية النضال والسعي الجاد إلى تغيير الوطن الموبوء على جميع الأصعدة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتوفير الأمن والرخاء والسعادة المطلوبة والدفاع عن حريات الإنسان وحقوقه الطبيعية والثقافية المشروعة التي أقرها الإسلام ونصت عليها مواثيق حقوق الإنسان الدولية والعالمية. بيد أن أباه كان يعارضه في كثير من النقط ويغضب أشد الغضب عندما تثار المسائل السياسية ولاسيما مهنته التي كانت تزعج منير وتنغص عليه حياته. لذا كان منير يحاربه ويجادله ويهدده بترك المنزل والانضمام إلى الرفاق ومناضلي الكلية

ولم تكن المفاجأة مأساة إلا عندما عاد منير بعد غيبة طويلة. رجع وجسمه منهوك، وجسده ملوث بتعذيب آلي لايتصور. لقد عاقبوه وصادروا حريته وشوهوا جثته حتى أصبحت فخذاه لاتقدران على الحركة والمشي. في جسده حروق وتشوهات من شدة ألم الاستنطاق والتعذيب اللاإنساني

ولم يرض الأب بهذه الدراما الوحشية الفظيعة. لذلك ذهب إلى الرباط للتنديد بمصادرة حقوق الإنسان وإعدام الأطفال وتعذيب الأطفال والتنكيل بالطلبة والوطنيين الغيورين على مستقبل بلادهم. وعاد من الرباط وقد أصابته لوثة جنونية وهذيان أفقد رشده وعقله. وأثرت هذه اللوثة على مصير الأسرة إذ أبعدت من مقرها داخل السجن، لتنتقل بعد ذلك إلى دار قديمة حيث خال رقية زوجة قاسم

وقد كانت نهاية الأب فاجعة وكارثة جنونية حلت بهذه الأسرة الفقيرة المعوزة. وانسلخ قاسم من هذا العالم الموبوء، وارتحل إلى الضريح حيث الزاوية لينضم إلى عالم الموتى والمجانين المقيدين بالسلاسل لينقش شواهد الشرفاء والراحلين إلى عالم الفناء والفضاء الأخروي

وأصبح لقاسم عالم آخر عالم الروح والتصوف والأحوال، يعيش مع الأرقام والقطط والموتى يناجي الذات المعشوقة وحروف الحي الأكبر، وفضاء الولاية المقدسة مترددا بين قيم الطهارة والدنس أو بين سمات العالم الموبوء وعالم الجذبة والأوراد وتراتيل الصوفية العارفين بالله

وهكذا يرحل قاسم في الأخير من عالم المادة إلى عالم الخلوة والحضرة الجنونية والمغيب الرباني. ومن ثم، يسترجع قاسم حريته وإنسانيته بعد تخلصه من مباءة الأوحال والأدران والأمراض المادية، لينتقل إلى عالم البركة والأولياء الصالحين وفضاء الأرواح وعشق الحروف وبياض الرخام وصفاء الوجدان وطهارة الأعماق

الفضاء الروائي

تستند الرواية إلى عدة فضاءات منغلقة ومنفتحة، بعضها عدائي والأخرى حميمية دون أن ننسى الأمكنة المقدسة والأفضية المدنسة الموبوءة
هذا ، وتنطلق حبكة الرواية من فضاء فاس إلى فضاء الرباط- على غرار لعبة النسيان لمحمد برادة – باعتبارهما فضاءين عامين، لتعود شخصية الرواية المحورية الديناميكية باللوثة الجنونية إلى فضاء فاس مرة أخرى. وتندغم في هذين الفضاءين أمكنة خاصة كالفنادق والشوارع والحانات والمقاهي والقبور والأضرحة والزوايا، أي فضاءات العتبة والروح والموت

وتحوي الرواية أمكنة عسكرية ومدنية وإدارية ودينية وعائلية وتجارية وأسطورية وفانطاستيكية قائمة على الغرابة والتعجيب. وتبقى الزاوية بضريحها المكان الروحي البديل للفضاء المادي الموبوء بالقهر والتسلط والقمع والفساد ومصادرة حقوق الإنسان

وتشبه هذه الرواية في أفضيتها رواية نجيب محفوظ" اللص والكلاب"، حيث ينتقل سعيد مهران الشخصية الرئيسة في الرواية من عالم السجن والأسر والعذاب إلى فضاء أرحب هو فضاء الجذبة والمشيخة الصوفية والطهارة اللدنية الروحية. وهذا مافعله قاسم الذي تخلص من الفضاء العدائي الموبوء والمغلق إلى فضاء أكثر رحابة وانفتاحا على السماء والعرفان الوجداني والأوراد الصوفية(ختانة الأولاد- التبرك- إطعام القطط - إبراء المجانين- محاسبة الذات وتطهيرها- نقش شواهد القبور). ويعاشر قاسم مقدم الزاوية السي الهاشمي الذي يسكن بيتا يجاور المقابر مع أسرته وبناته. وكانت بناته يلبسن المريلات أثناء ذهابهن إلى المدرسة، بينما يفترش قاسم غرفة منعزلة بعيدا عن أسرته وفاس الموبوءة بين أربعة أموات رفضا للمعاملة اللاإنسانية التي يعامل بها الإنسان البريء في عالم الاستبداد والسلطة المطلقة القائمة على الإلزام والإكراه والقهر والتسلطن الجائر. ولافرق بين السجن والضريح- كما يقول سعيد يقطين- " إنهما فضاءان منغلقان، ومعا يشكلان مؤسسة. للأولى طابع سياسي، وللثانية بعد ديني. وهما معا يضمان فئة"خارجة" عن المجتمع أو الجماعة، وينغلقان عليهما. يختلف الدال؛ لكن المدلول واحد، لافرق بين السجن الذي ينغلق فيه على الخارجين على القانون الاجتماعي( الثوار)، وبين الضريح الذي ينغلق فيه على الخارجين على الشعور الجماعي( المجانين). ويمارس المجتمع عليهم إلا بعد أن يعود إليهم رشدهم ( المجانين)، أو يتراجعوا عن غيهم( الثوار)، ويكلف بهم من يقوم بحراستهم وتعذيبهم

وما هروب قاسم من الواقع الموبوء ومن فضاء السجن إلا تعبير عن الرفض المطلق لماهو سائد من القيم والسلوكيات والأعراف والعادات المدنسة، والتنديد كذلك بالقمع والظلم والجبروت وانعدام الحريات والعدالة الاجتماعية ودولة حقوق الإنسان


إنه سخط وتمرد على قوانين الأسياد والأقوياء وشرائعهم المزيفة وادعاءاتهم الباطلة

ويعكس هروب قاسم من الواقع المنحط إلى الزاوية التحول الكبير لديه على" مستوى شخصيته ورؤيته للأشياء. إنه يهرب من الذاكرة، ومن الأسرة، ومن المجتمع، في الضريح يخلق له عالما جديدا مختلفا كل الاختلاف عن عالم السجن. يستبدل بالإزميل الذي يحفر به على شواهد القبور مفتاح باب الزنزانة. ومن ممارسة الواجب، ينتقل إلى ممارسة الاختيار، في الواجب ركون ودعة واستسلام


ويعد الضريح فضاء للتحرر من إسار الجسد وقيود السجن والفضاء الموبوء المطعون في شكله وجماله والارتحال على فضاء الإبداع والكتابة والرسم ومعانقة الحي الأكبر


أما كما مارس فيه قاسم حياته مع أسرته فهو " فضاء يعقلن فيه قاسم رؤيته للأشياء وطريقة حواره مع أبنائه. لكن الضريح فضاء للتحرر والفعل والإبداع. فيه " يعتقل" قاسم نفسه اختياريا، وقد أصبح " مجنونا" بعد التحول الذي طرأ على ابنيه بعد خروجه من السجن، بهذا يتقاطع الفضاءان ويترابطان في علاقتهما بالشخصية المركزية في القصة


البنية الجمالية والسردية


التركيب الهيكلي


وإذا انتقلنا إلى البنية الجمالية والسردية للرواية سنجدها ذات تركيب دائري حلزوني كما سبق الذكر. ومن ثم، فبداية الرواية هي نهايتها، حيث تبتدئ الرواية بالحديث عن الكتابة والحروف وتطويع الإزميل لنقش شواهد القبور، وتنتهي كذلك بمناجاة الحروف ودعوتها إلى تغيير الواقع والنزول إليه لمحاورته بلغة اليومي والخطاب المكشوف


الوصف

وينصب الوصف في هذه الرواية على الشخصيات الجوهرية مثل: قاسم وسي الهاشمي وميمونة ونعيمة ورقية ومنير... ويرصد السارد كيفيات هذه الماهيات الإنسانية من زوايا نفسية وفيزيولوجية وأخلاقية وأدوارها الاجتماعية ووظائفها السردية. كما يرتكز المحمول الوصفي على المكان( السجن، الضريح، الزاوية

ويلاحظ على هذا الوصف نوع من الاستقصاء والتفصيل والتدقيق في الأشياء والملامح عن طريق التشخيص والأنسنة وشعرنة المحكي وتحويله إلى خطاب رمزي بالدوال العرفانية والأوراد الصوفية


الرؤية السردية


وإذا انتقلنا إلى المنظور والرؤية السردية سنلاحظ تعدد السراد والضمائر( التكلم- الخطاب- الغيبة)، وتعدد الأصوات على غرار الرواية الجديدة المتعددة السراد والرواة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى انفتاح الكاتب على الرواية الفرنسية الجديدة والنقد السردي المعاصر( البنيوية السردية على سبيل المثال)، دون أن ننسى اطلاعه الكبير على تجارب الشكلانيين الروس وبوليفونية باختين ضمن كتابيه" شعرية دويستفسكي"و" النظرية الجمالية للرواية

زمن السرد


أما زمن السرد في الرواية فهو زمن دائري و منحرف يمتد من الاستباق نحو نقطة الانطلاق الحاضر". أي إن بداية الرواية هو الفصل الثاني" السجن"، والفصل الثاني هو"الضريح" أي الفصل الأول، ويبقى الفصل الأخير هو "الضريح" أي الفصل الثالث

إذاً، فزمن الرواية يتخلله تقاطع وتداخل زمني قائم على الاسترجاع والاستشراف المستقبلي علاوة على التضمين الزمني على الرغم من كون زمن السرد هابطا من المستقبل ليعود إلى الحاضر، وبعد ذلك يسترجع الماضي في شكل نهاية لمسار السرد الروائي

وهذا التكسير الزمني معروف في الرواية الجديدة والرواية العربية الطليعية. أما زمن المحكي أو المتن القصصي فهو زمن متداخل يتقاطع فيه مغرب الاستعمار ومغرب الاستقلال، ناهيك عن المغرب الراهن بكل تجاعيده وأتراحه

الصياغة

يلاحظ على مستوى الصيغة أو الصياغة تعدد الأساليب السردية من سرد مباشر وغير مباشر ومناجاة وأسلوب غير مباشر حر. وتتسم كتابة الرواية بأسلبة بصرية ذات طبيعة شعرية أو وجدانية صوفية. وتطبع اللغة الإيحائية الرمزية وشاعرية التضمين ورؤيا العرفان وشذرية الخطاب الصوفي وزئبقية الأوراد ، وتخنث الأسلوب إنشائيا بسبب التكثيف الشاعري كأننا نعيش في أجواء شاعرية وفضاءات روحية سحرية و أسطورية.
هذا، ويوظف الكاتب جملا قصيرة بسيطة في محمولاتها، محددة بفواصل تستند إلى لعبة الانزياح والتوازي والتقابل والتقديم والتأخير والتخريب السردي. وكل هذا جعل لغة الكاتب لغة إبداعية بيانية بعيدة عن جفاف بعض الروايات المغربية وتقريريتها التشخيصية مثل كتابات الروائيين الواقعيين أمثال: مبارك ربيع وعبد الله العروي ومحمد شكري وعبد الكريم غلاب ولاسيما في روايتيه: دفنا الماضي، والمعلم علي

التفاعل النصي


تتناص رواية المباءة على مستوى التفاعل التناصي والحواري والاشتقاق النصي مع رواية الطاعون8 لألبير كامو. فهذا النص الأخير هو بمثابة نص سابق لنص المباءة الذي يعد نصا لاحقا بينهما تفاعل تناصي على مستوى الدلالة والصياغة والترميز والإحالة.
ويمكن إدراج رواية المباءة ضمن الروايات التي تستوحي الخطاب الصوفي( الزاوية- الضريح- الأوراد- قاسم الورداني- الحروف- نقش الشواهد- الحي- عبد الرحمن المجذوب- المقتبسات الصوفية...)، على غرار الزاوية للمرحوم التهامي الوزاني(1942)، وجارات أبي موسى لأحمد توفيق


الأبعاد المرجعية



على الرغم من أن الرواية ذات فضاء خاص(فاس)، إلا أنها تدين الفضاء العام بكل سلبياته وقروحه المتعفنة وتفاوتاته الطبقية، وتعريه باعتباره فضاء موبوءا مدنسا بقيم كمية زائفة ومواضعات كاذبة. إنه عالم الماديات والإحباطات السيكولوجية والفراغ الروحاني والتكالب على المصالح الشخصية، وانحطاط القيم الأصيلة، وضلال الإنسان، وتيهه في عالم الظلمة والشك. إنه فضاء الفقر والجهل، والأمراض، والخرافة والأسطورة، واستغلال الدين بادعاء الولاية العرفانية.
كما تصور الرواية صراع الطلبة الرفاق ضد السلطة قصد تغيير الواقع بدل تكريسه والمحافظة عليه. وتحيل كذلك على مصادرة السلطة لحقوق الإنسان وانتهاجها لأساليب شتى كالضغط المادي(السجن، التعذيب، الطرد، التجويع)، والضغط المعنوي(الإلزام والإكراه عن طريق الإعلام وبرامج التربية والتعليم والضغط على الفقهاء والعلماء لتبرير إيديولوجية السلطة الحاكمة). لذا تدعو الرواية إلى عالم الطهارة والتحلي الصوفي والانجذاب اللدني والتحرر الجسدي والابتعاد عن عالم الأدران والأفضية الموبوءة والقيم المهترئة حيث العدالة الاجتماعية منعدمة وحقوق الإنسان غائبة والإنسان مستلب


الخاتمة

يتبين لنا مما سبق، أن رواية المباءة رواية طليعية تنهج طريق التجريب والتجديد عبر تفضية الرواية وخلخلة زمنها ومنطقها السردي والإكثار من السراد والأصوات البوليفونية والضمائر فضلا عن الإكثار من السجلات التناصية. ومن ثم، يمكن القول: إن رواية المباءة نص مفتوح على كل الأجناس والأنواع. لذا فهي رواية صوفية ورواية رمزية ورواية فضاء ورواية المحكي الشاعري ورواية أسطورية ورواية عجائبية

بيد أننا نلاحظ في هذه الرواية غموضا وإبهاما على مستوى الدلالة؛ بسبب الأحداث السردية المجردة التي تضمنتها، ناهيك عن تقاطعات سردية متشنجة تربك المتلقي وتخيب أفق انتظاره. ولا ننسى أن هذا الإبهام ناتج عن غلبة اللغة الإنشائية الاستعارية والترميز الشاعري على منطق الأحداث. وتجعل هذه الخلخلة المخربة لاتساق النص ونسيج المتن الروائي القارئ حائرا مشدوها يجد صعوبة كبيرة في تتبع الحبكة السردية المفككة والتلذذ بجماليتها الإبداعية؛ ولاسيما القارئ الذي لم يتعود كثيرا على النصوص الروائية التجريبية ولم ينفتح على نظريات النقد السردي المعاصر

ولا تنبني الحداثة – حسب ظني- على بلاغة الإبهام والغموض والتصنع التجريبي، وتقليد قواعد السرد المعاصر، بل تنبني على وضوح الإيحاء والرموز القابلة للفهم والاستحضار التناصي والعفوية المطبوعة في الكتابة الإبداعية وتوظيف التقنيات السردية بشكل طبيعي وتلقائي مع الاطلاع على التراث السردي العربي القديم والحديث منه لكتابة نص روائي أصيل لينسجم معه المتلقي الذي أصبح لايبحث إلا على ما هو جميل وأصيل وممتع ومفيد. لأن النص الروائي متعة وفائدة، جمال وإقناع، إبداع ورؤية

وعلى الرغم من هذه الانتقادات ، فتبقى رواية محمد عزالدين التازي رواية جادة وجديدة؛ لكونها تحلق في عوالم عديدة واقعية وأسطورية وصوفية وعجائبية. وتصدر الرواية عن رؤية صوفية روحانية للعالم قوامها التحرر والانعتاق من الاستعباد والاستلاب الواقعي والفضاء المادي الموبوء والارتحال إلى عالم الأوراد والتطهير العرفاني