الجلباب البزيوي من قرية مهمشة إلى اللباس الرسمي للدولة
ذ. الكبير الداديسي

يتميز المغرب بعدد من الخصائص التي تحدد هوية أفراده، وتفرده عن مختلف بلدان العالم على مستوى العمران، الطبخ، الحكايات الشعبية، الرقصات، الأهازيج، اللهجات، وسبق أن نشرنا في هذه المجلة دراسة حول الأهازيج والرقصات الشعبية في المغرب. ويبقى اللباس سواء النسائي أو الرجالي علامة فارقة تكشف خصوصية البلد. فنميز الخليجي والإفريقي و الهندي... في كثير من الأحيان من خلال اللباس، واللباس المغربي عريق متنوع تفننت أنامل الصناع التقليدين في حياكته، خياطته وتطريزه لتقدم للمغربي لباسا بحسب المناسبات العائلية، الوطنية والدينية يبقى الجلباب المغربي من أهم تلك الألبسة المغربية...
يتم التمييز في الجلباب المغربي حسب الجنس بين جلابيب النساء وجلابيب الرجال، وحسب الطقس بين الجلباب الصيفي الخفيف والجلباب الشتوي الصوفي الثقيل، وحسب المناطق الجغرافية بين عدة أنواع باعتبار مكان صنعه فيقال ( جلباب وزان جلباب كالة، جلباب فاس، جلباب الشاون، جلباب الأطلس ..) أو باعتبار نوعية الجلباب وطريقة نسجه ( جلباب الحبة، الجلباب النمري،...) أو باعتبار مكوناته (جلباب الصوف، جلباب الحرير، جلباب الصابرا، جلبابا السدا (بتسكين السين)...)
وأمام هذا الثراء والتنوع في الجلباب المغربي يظل الجلباب البزيوي أهم وأرقى هذه الأنواع لذلك أختير لباسا رسميا للملكة، يلبسه المغاربة في مناسبات الفرح والأعراس العائلية من زواج وختان ومناسبات الحزن العزاء والتأبين، والأعياد الدينية كعيد الفطر وعيد الضحى، ليلية القدر وخلال شهر رمضان، توديع واستقبال الحجاج... يتزين به ملوك الدولة ونوابها وزراؤها في الاحتفالات الرسمية كمناسبة افتتاح الموسم التشريعي، و حفل الولاء وأداء البيعة... ويلبسه العريس ليلة عمره... وبه يتباهى المغنون والعازفون في بعض الأنماط الغنائية الأصيلة كطرب الآلة، والموسيقي الأندلسية، وطرب الملحون ... مما جعل منه علامة مغربية مميزة، لا يراها الرائي إلا ونسبها إلى المغرب مهما كان لابسها... لكن هل تسأل أحد يوما ما أين تقع ابزو التي تنسب إليها الجلابة البزيوية؟ وما خصائص هذا الجلباب؟ وما مراحل صنعه؟ وما يميزه عن غيره من الجلابيب المغربية؟ وكيف غدا لباسا رسميا للدولة المغربية؟

ابزو التي ينسب إليها الجلباب ليست سوى قرية صغيرة مهمشة في المغرب العميق، والكلمة من الناحية اللغوية كلمة متداولة في الثقافة الإنسانية منذ القديم، فالكلمة استعملت في الثقافة البابلية والسومرية بدلالات قدسية إذ أطلقت ابزو على ( مياه الغمر التي كانت تغمر الأرض في البدء وهو مصطلح أكدي قديم يمثل كثلة السماء والأرض المحاطتين بمياه البدء) كما استعملت الكلمة في أسطورة الخلق العراقية وأطلقت ابزو على (معبد الإله "أنكي" إله الخير والعذوبة ومانح الخصب) إنه تجمع لجج المياه العذبة الحلوة تحت الأرض التي تتولد منها (المياه والبحيرات و البحار والأنهار و الجداول و الينابيع ) مثل دجلة والفرات ، وتؤكد الأسطورة أن أصل الخلق هما (أب-زو وتمات) من تم فاب-زو تعني الأب الأول وقد نطقها بعضهم (أبسو)، وإلى جانب ذلك ورد ذكر ابزو كمدينة مشهورة بصناعة النسيج في سياق الحديث عن مملكة رابيلا (إربد) القديمة ...
أما عربيا فقد وردت كلمة "ابزو" في المعاجم بدلالات ومعاني منها في لسان العرب (البزْوُ الغلبة والقهر منه سمي البازي) والفعل بزا بزوا بمعنى تطاول فيقال بزا الرجلُ أي خرج صدره ودخل ظهره، وبزا الرجلَ قهره وغلبه.... والبز (ضرب من الثياب) والبزة اللبسة والحرفة البزازة
ليتضح أن معاني "ابزو" لا تبتعد كثيرا عن الماء والثياب وحسن الهيأة فهل من علاقة بين هذه المعاني وابزو القرية التي ينسب إليها الجلباب البزيوي الذي يشكل أرقى لباس رسمي رجالي بالمملكة المغربية ؟؟؟

جغرافيا ابزو التي ينسب إليها الجلباب البزوي في المغرب أحد دوائر أقليم أزيلال الأربع (دائرة أزيلال / دائرة دمنات/ دائرة أفورار ودائرة ابزو) ودائرة ابزو تجمع سكاني يضم عددا من الدواوير والمداشر المنتشرة في السفوح الجنوبية الغربية للأطلس المتوسط، وهي تجمع قديم في موقع استراتيجي بين فاس ومراكش، مما اكسبها مكانة تجارية منذ القديم، وقد ورد ذكرها في عدد من المصادر القديمة منها ما أشار إليه ابن خلدون في تاريخه وهو يتحدث عن بعض الأحداث التي عرفتها المنطقة مطلع القرن الثامن ، ووصفها ليون الإفريقي حوالي سنة 1521م بقوله: (ابزو مدينة قديمة على جبل عال، يجري من تحت أقدامها وادي العبيد، على بعد ثلاثة أميال، وسكان ابزو كلهم تجار، أمناء حسنوا الهندام، يصدرون الجلود والزيت ومختلف الفواكه الطيبة، ومن عاداتهم تجفيف عنب ذي لون ومذاق عجيبين وعددا هائلا من أشجار التين، وهي أشجار عظيمة ضخمة، وتبلغ أشجار الجوز حدا متناهيا من الإرتفاع. لدرجة أن الحدأ تعشش فيها بأمان لأنه لا يوجد إنسان يجرؤ على أن يتسلق في مثل ذلك الارتفاع. ومنحدر الجبل المؤدي إلى الوادي محروث تماما، بينما تمتد الحدائق الغناء على ضفة النهر. ذهبت إلى ابزو في نهاية شهر ماي، حيث فاكهة المشمش والتين ناضجة، وأقمت عند إمام المدينة، بجوار مسجد في غاية من الجمال، تمر بالقرب منه ساقية تخترق سوق المدينة.) . وقال مؤرخ برتغالي كان أسيرا لدى السعديين بمراكش في ابزو مشيرا إلى معالم لم يعد لها اليوم وجود تتعلق بالأسوار والبروج: (ابزو مدينة قديمة، تضم أزيد من ألف وخمسمائة ساكن، في موقع لائق ملائم على جبل شاهق من جبال الأطلس، تحيط بها أسوار وبروج مشيدة بالحجر الموثق بالجير…السكان بربر من قبيلة مصمودة، نساؤهم بيض، جميلات، أنيقات.)

وقد ساهم موقع ابزو بين فاس ومراكش في أن تلعب دورا مهما في القرون الوسطى باعتبارها ممرا للقوافل التجارية إذ لا زال بالمنطقة طريق بمحاذاة ابزو يسمى (طريق الجِمال) ظلت القوافل تسلكه إلى عهد قريب ، من بين أنامل نساء هذه المنطق يخرج منذ زمن طويل الجلباب البزيوي.

والجلباب البزيوي جلباب خفيف مما يجعله لباس المناسبات الرسمية، فهو ليس للاستعمال اليومي، وليس للوقاية من البرد كما هو شأن معظم الجلابيب المغربية، ورغم الحظوة التي يحظى بها ضمن الألبسة التقليدية المغربية، ورغم الشهرة التي تجاوزت الآفاق المحلية والووطنية، ورغم اتخاذه اللباس الرسمي لرجالات الملكة فلا زالت صناعته مقتصرة على تلك القرية التي تنام في حضن سفوح الأطلس، كما لا زالت كل مراحل تصنيع الجلباب البزوي يدوية، تقليدية كما توارثها الأجيال، وهي في معظمها مرتبطة بالمرأة، وقلما كان للرجل دخل فيها باستثناء جز الصوف و بيع أو لبس الجلباب، فالرجال كما في معظم البلدان الأبيسية لهم البداية والنهاية...
يبتدئ الجلباب البزيوي بجز الصوف و أهل ابزو يبدلون الجيم بالدال فيقولون (دز) الصوف والمهنة عندهم (الدزازة) وتكون صيفا، لمساعدة القطيع على التمتع بالفصل المشمس بجني ما تكاثر على ظهورها من الصوف، يكون الجز/الدز بمقص حديدي خاص، في طقوس احتفالية غالبا ما يتم خلالها عقر ذبيحة من القطيع.
يخزن المحصول السنوي من الصوف و الفائض منه كان يصدر لفاس ومراكش والمدن الأخرى، ومن هذا الصوف كانت البزيويات ينسجن الزرابي و الجلباب البزيوي...
وبما أن كلمة ابزو مرتبطة بالمياه والنسيج، فلا يستقيم نسج الجلباب دون الاعتماد على مياه عين "تامدة" - وهي مكان طبيعي وجيولوجي مميز يمثل منبعا لعدد من العيون من تحت الصخور تحيط بها جبال صخرية كالأسوار اتخذها الحمام البري وطيور الباشق مكانا آمنا للتعشيش والتكاثر، في إحدى تلك العيون (عين الصوف) والتي نسجت حولها الأسطورة حكايات عجيبة كثيرة- يكون غسل الصوف و تهييئه وفق طقوس خاصة. وبأدوات تنظيف طبيعية سواء أ كان الصوف "بطانة" (جلد خروف مسلوخ بصوفه بعد الذبح) أم صوفا مُجزّا. يوضع الصوف تحت شلال العين لحظة حتى يتسلل الماء إلى كل أجزائه، يرفع ويوضع على صخور ملساء أعدتها الطبيعة لهذا الغرض، يفرغ مسحوق نباتي منظِّف يسمى محليا (تيغشت) بين ثنايا الصوف، و(تيغشت) جذور نباتية تعرض للشمس حتى تجف، ويتم دقها لتصبح شبه مسحوق .


يفرك الصوف حتى يتسلل المسحوق إلى كل الثنايا ، تقلب (البطانة) بحيث يصبح الصوف في الداخل والجلد على الخارج، لتبدأ ضربات النساء بالعصي تنهال على الصوف، وقد أصبح الرجال في السنوات الأخيرة يساعدون نساءهن في تنظيف الصوف .

بعد إشباع البطانة ضربا تعاد إلى الماء لتنظيفها من بقايا المسحوق، وما بقي بها من أوساخ وعوالق؛ تبن، دهون أو دماء علقت بها أثناء الذبح والسلخ، بعد التنظيف يتم تجفيفها بوضعها في سلة أو نشرها على الصخور حتى يتقاطر ماؤها، قبل رجها وتحريكها بقوة بين امرأتين ليتطاير ما بالصوف من ماء.

يحمل الصوف إلى البيت ينشر في الظل، حتى يجف، وقبل أن تنبعث منه أية رائحة كريهة تبدأ المرأة في خلخلة الصوف بمشط كبير، يده من الخشب وأسنانه حديدية طويلة، معد لهذه المهمة.

فبعد ما يربو على اليوم يكون الصوف قد نضج، وسهل فصله عن الجلد، تأخذ المرأة المشط وتدفعه في الصوف تجذبه فيفصله عن الجلد، ولما يمتلئ المشط صوفا، تأخذ المرأة مشطا آخر فارغا، وعبر ضربات متتالية يتم تحويل الصوف من مشط لآخر، وتستمر في تبادل الصوف بين بين المشطين نتفا حتى يصبح صوفا ناعما خالصا ناصع البياض في عملية تسمى (خلخلة) .

وإذا ما كان الصوف لا زال في حاجة إلى معالجة يتم تمريره بين القراشل وهي لوحتان خشبيتان مربعتا الشكل لهما مقابض، تلصق بداخل كل واحدة صفيحة بها مسامير رقيقة متقاربة، يوضع بينهما الصوف وتبدأ المرأة في تمرير الصوف من واحدة إلى أخرى بعد حكهما في الاتجاه المعاكس حتى يصير أكثر نعومة.



بعد الخلخلة يتم تشكيل سنابل من الصوف المعالج، وأحيانا قد لا تحتاج النسوة إلى استعمال القراشل، ويتم استخراج السنابل مباشرة من المشط، إذا تجلس المرأة إلى الأرض، وتمسك المشط بقدميها، وتبدأ في سحب الصوف تدريجيا للحصول على السنابل صوفية طويلة.

بعد تكوين السنابل، تأتي مرحلة تنقيتها بالشفاه، تمرر المرأة السنبلة أما عينيها بعد هلهلتها، وإذا ما بدت لها حبة أو عقدة صوفية تنزعها بشفتيه بطريقة تعكس دربة خاصة

وعندما تصبح السنبلة (السبولة) جاهزة للغزل ، تلف على مغزل يدوي، وهو عبارة عن عودين صغيرين أملسين، تلف السنبلة على واحد منهما، ويتم إثقال الآخر بخرزة خشبية تسمى دكالة (ثقالة) تشكل فلكة المغزل، لتنطلق الأنامل في برم الصوف وينساب بين الأنامل خيوطا دقيقة ناصعة البياض .


عندما تمتلئ المغازل بالخيوط الرقيقة يتم أفراغها على شكل حلقات بلفها على الخنصر والسبابة، والعودة بها إلى عين تامدة لتنظيفها من جديد مما قد يكون علق بها من أوساخ أو عرق أثناء الغزل، ويكون التنظيف هذه المرة بمسحوق عادي، توضع الخيوط في رغوته حتى يتشرب الرغوة، فتنقله المرأة إلى صخرة ملساء وتنطلق في ضربه (بخباطة) وهي هراوة مسطحة ملساء معدة لهذه المهمة، بعد ذلك يتم فرك الخيوط جيدا، قبل تخليصها من الرغوة وتحليلها في مياه الجدول الرقراق، وقد غدا أكثر نظافة.



عند العودة للبيت تكون العملية الكيماوية الوحيدة في مسار الجلباب البزيوي، هي" كبرتة" الخيوط وخلال هذه العملية يتم تعريض الخيوط لدخان الكبريت: تضع المرأة قطع الكبيريت الأصفر في قطعة من الفخار على الجمر، وفي جانب آخر تُحضر سلة من القصب، تضع عليها ثوبا نظيفا أبيض اللون ، وعلى هذا الثوب ترتب الخيوط الصوفية النظيفة، وتغطى الكل بثوب أبيض نظيف، تضع المرأة الكبريت تحت السلة تاركة الخيوط تتشبع بدخان الكبريت، وبعد وقت قد يتجاوز الثلاث ساعات تكون الخيوط قد ازدادت بياضا و اكتسبت لونها الأبيض الناصع النهائي.


هكذا يتكون (السدا) (بتسكين السين ) الذي تتحدد جودته بحسب معايير المتانة، الدقة،المقاومة، اللون... فبقدر ما يكون الخيط رقيقا، متينا، سلسا،، ناصع البياض تكون جودته، وليسهل استخدام الخيوط تفضل النساء جمع الخيوط في كرات في عملية تسمى (التكباب) أي تحويل الخيوط إلى كُبَّةٍ أي كرة تتم هذه العملية بوضع المغزل الممتلئ بالخيوط بشكل مائل لا يلامس الأرض، وغالبا ما تستعين المرأة بكأس فارغة وإبريق تضع عليهما المغزل ليسهل دورانه، وتقوم بسحب الخيوط وإدارتها يدويا لتشكل الكبة (كرة الخيط)

ولإعداد المنسج يتم دق ثلاثة أوتاد متباعدة في خط مستقيم على أرضية مستوية، تجلس امرأتان عند الوتدين الذين في الطرفين ويشكل الوتد الثالث الذي يسمى الصاري منتصف المستقيم، وتقوم امرأة ثالثة بالذهاب والإياب بينهما تسلمهما الخيط لتثبته كل واحدة على الوتد الذي أمامها، فيما يشكل (الصاري) نقطة لتعيير مسار الخيوط ، هكذا يتخذ مسار الخيوط شكل علامة لا نهاية الصاري في الوسط نقطة تغيير الاتجاه. تسمى المرحلة ب(تجرية) من الجري تعبيرا عن تردد حاملة الخيط بين الجالستين على الطرفين، وغالبا ما تقوم بذلك مسرعة في مشيتها.


بعد ( التجرية ) يتم جمع المنسج باستبدال الأوتاد بقضبان خشبية سلسة عادة ما تكون من شجرة الكمثرى فيما يتم إدراج أربع قصبات بشكل متواز قصبتان في كل جهة حيث يكون القضيب الأوسط محور القصبات، يربط أحد القضبان الطرف بخشبة مستطيلة متبثة في الأرض في ما تجر النساء القضيب الآخر ، هكذا يساهم عدد من النساء في بسط المنسج ، وتتكلف أربعة في شكل زوجين، كل زوج يمسك قصبتين يحركانهما بين الخيوط من فوق إلى أسفل تسهيلا لفرز الخيوط واستقلالها، وجعلها تسير في مسار مستقيم وهذا ما سيشكل ( الواقف) إي الخيوط العمودية للمنسج، بعد ذلك تطوى الخيوط بإحكام ودقة متناهية على خشبة موازية للخشبة الأولى. فيصبح المنسج بين الخشبتين .


في البيت تكون المرأة قد أعدت المكان لاستقبال المنسج: عمودان خشبيان واقفتان على بعد أقل من متر على حائط ، يسميان (وقّفات) لأن عليهما يقف المنسج، يوضع المنسج المجموع على هذين العمودين، ويسدل منه حوالي المترين ،و تثبت الخشبتان السفلى الفارغة ، والعليا التي طويت حولها خيوط الواقف، ويصبح المنسج واقفا بثبات وحفاض على نظافة المنسج، لا تتوان النساء في غطائه درءا للغبار أو الحشرات :


هكذا تبدأ الأنامل في تمرير الخيوط الدقيق (السدا) أفقيا بين الخيوط العمودية (الواقف)، وكلما تم تمرير خيط تضغط عليه المرأة بمشط حديدي دقيقة أسنانه بضربات خفيفة من اليمين إلى اليسار، وغالبا ما يكون هذا المشط الحديدي ذي المقبض الخشبي مزينا بحلقات في الجنبين، تحدثان رنينا رتيبا يساير حركة المرأة وهي تضرب (السدا) وتثبته ، وعندما تتكون بعض الخطوط ، يكون المنسوج في حاجة إلى شد من الجانبين ( اليمين واليسار) فتضطر المرأة إلى استعمال (العضاضات)، والعضاضة خشبة مخروطية بجانب مفتوح يمر منها خيط ، مربوط بقطعة خشبية ، عندما يجذب الخيط تدخل القطعة الخشبية في الفوهة المفتوحة ، تلف المرأة قطعة قماش على حاشية الطرف المنسوج، وتضعها في الفوهة المفتوحة، ولما يجذب الخيط تعض قطعة الخشب على النسيج لتشده المرأة فيصبح المنسوج مشدودا :

ولما تنسج المرأة مقدار الشبرين تلف المنسوج على الخشبة السفلى، وترخي نفس المقدار من الخشبة العليا ، بنفس الحرص على نظافة المنسج، وتستمر العملية طي المنسوج الأسفل، وإرخاء الملفوف في الخشبة العليا، حتى آخر لفة ، وقتها تكون أكر مرحلة في المنسج البزيوي وهي (التكراج) وتعني قطع خيوط الواقف بطريقة متساوية ، ليصبح ثوب الجلباب البزيوي جاهزا للتسويق :



هذه القطعة المنسوجة هي التي ستشكل اللباس الرسمي لرجالات الدولة، يمتزج فيه الحرير الخالص بما تغزل أنامل النساء، ، ويلاحظ مدى حرص النساء على النظافة في كل خطوة من خطوات الإعداد، فبالإضافة إلى تنظيف الصوف والخيوط تتشبث النساء بنظافة الأثواب التي يغطى بها المنسج، ونظافة الأيدي فلا يمكن لأية امرأة الجلوس لتنسج إلا بعد غسل أيديها بالماء والصابون عددا من المرات، ولا يسمح للأطفال والزوار باستعمال نفس الصابون، فصابون المنسج يجب أن يظل نظيفا، لا يلمسه إلا النسجات، فالثوب أبيض والنساء حريصات كل الحرص على أن يظل في نصاعته، لذلك تكون النظافة من أهم المزايا التي ترافق الجلباب البزيوي في كل مراحله بدءا بغسل الصوف، مرورا بغسل الخيوط في مراحل متعددة، فحرص النساء على غطاء المنسجن وغسل اليدين كلما جلست المرأة لتنسج ...
قد يحدث أن تبيع امرأة الجلباب الذي نسجته أناملها لزبون غريب دون وساطة تجارية، لكن معظم الجلابيب تباع كل مساء من يوم الجمعة في (السويقة) وهي سوق أسبوعي يعقد مباشرة بعد صلاة الجمعة، وينتهي مع آذان صلاة العصر، تتوافد النساء من مختلف الدواوير والمداشر كل تحمل ما أبدعت أناملها ملفوفة في مناديل دقيقة نظيفة، تسلم المرأة ما نسجت لدلال يعرض الجلباب أمام المشترين الذين جلسوا على كراسي أو بأبواب الدكاكين الموجودة في السويقة بحي المدرسة، لينطلق المزاد العلني ، يبدأ الدلال وهو يحث الخطو بين الجالسين مفتتحا المزاد بصوت مرتفع: (على الله ... على الله ) وتعني أن هذا الجلباب لم يحدد ثمنه بعد، وما أن يدفع فيه أول مشتر ثمنا حتى يغدو الدلال يردد الثمن ، وكلما أضاف مشتر مبلغا، يردد الدلال الثمن الجديد حتى يتوقف المزاد فيقتني الجلباب ويدفع الثمن للمرأة أمام الشهود بعد أن يتأكد من مقاسا الجلباب طولا وعرضا، ويكون الذراع هو وحد القياس فالعرض يتطلب ثلاثة أذرع والطول ستة أذرع (الدراع من المرفق إلى رأس أصبع الوسطى في اليد) ، وإذا لم يعجب الثمن المرأة ، يرد إليها جلبابها لتعرضها للبيع الجمعة المقبلة، أما إذا اتفق البائع والمشتري فالمرأة (البائعة) هي من يدفع (أتعاب الدلال ودمغة واجب السوق، مع عدم احتساب الزيادة الأخيرة التي أضافها المشتري)

بالمزاد ينتهي عمل المرأة الذي قد يستغرق أكثر من الشهر، إذا ما اشتغلت فيها امرأة وحيدة، وتكون المدة أقل من ذلك إذا كان من يساعدها في النسج، أو في أعمال البيت، لأن نسج الجلابيب البزيوية لا يكون إلا بالمنازل، وكل محاولات تكوين معامل واعتبار النساء عاملات يلتزمن بزمن الشعل باءت بالفشل، لأن معظم النساء قرويات، تفضلن الجمع بين النسيج وعمل البيت، فيما الخروج للمعامل سيحرمها من تتبع تربية الأبناء، والقيام بأعمال البيت... هذا وقد جرت العادة على ألا تدفع النساء ثمن المواد الأولية، وأجر المساعدة إن وجدت إلا بعد بيع الجلابيب.
والجلباب البزيوي في نسجه أنواع فهناك نوع من الجلابيب يتكون من ( السدا) الخالص، سواء كان جلبابا أو برنسا، ونوع آخر يكون كله حرير ؛ والحرير أما حر أو عادي ، ونوع يمتزج فيه الحرير (عادي أو حر) بالسدا ولهذه المكونات تأثير على ثمن الجلباب البزيوي الذي يتراوح ما 1500 درهم و4000 درهم مغربي، وقد كان اللون البيض الآكثر تداولا في الجلباب البزوي، غير أن التطور فرض في السنوات الأخير إدخال مختلف الألوان سواء في الحرير أو الخيوط الصوفية التي تغزلها النساء وتصبغها حسب اللون المطلوب....

بعد المزاد وعندما يشترى تجار المنطقة ما نسجت النساء، يجوبون ببضاعتهم مختلف المدن المغربية ، كباعة متجولين، يعرضون الجلباب البزيوي بالإدارات والمرافق العامة والخاصة، أو من خلال علاقات واتصالات مسبقة ليكونوا وسطاء بين المنتج والمستهلك، ويعد هؤلاء الوسطاء الرابح الأكبر في العملية، فقد يجني الوسيط من وساطته أضعاف ما تجنيه امرأة قضت أكثر من شهر تكد بجد النمل تعذب الذات بالسهر، الكد والصبر...


إن الجلباب البزيوي يمثل لأهل المنطقة والمغاربة عامة رمزا للأصالة الضاربة في عمق التاريخ، ورمزا للدقة المتناهية في السبك، العزل، النسج، الحياكة والخياطة ، وهو ما جعلها رمزا للجمال والأناقة والأبهة المغربية، فمن عمق الطبيعة، وعمق الأطلس حيث الخضرة الطبيعة والمياه المهراقة يتدفق جمال هذه الجلباب.
والمتتبع لمراحل وخصائص هذا الجلباب يقف على تحضرٍ متوارثٍ، وعراقةٍ متأصلةٍ، وحرصٍ على النظافة ، وإصرار على الرقة والدقة في كل شيء، وتشبث بالقيم فقبل انطلاق البيع بالمزاد يقرأ الدلالون الفاتحة جماعيا أمام الملأ، كميثاق شرف يعلنون فيه احترام قيم المهنة، والالتزام بشروط البيع بالمزاد، والشفافية في التعامل، والالتزام بضمان حقوق البائع وحقوق المشتري...
ولعل هذه القيم ، وتلك الجمالية هي ما جعلت عددا من المبدعين يغرمون بهذه القرية الساحرة فخلدوا سحرها، وجمال طبيعتها في أعمال فنية خالدة من اللوحات، الأغاني، والقصائد الشعرية ويبقى العلامة المختار السوسي من بين من زار البلدة افتتن بجمال طبيعتها، وطيبة وكرم أهلها، فنظم فيها ما لم ينظمه في غيرها من المدن والقرى، قال المختار السوسي في ابزو:
سَيِّدَةُ الحُسنِ : ابزو ++ + ++ سناءُ تَرَبَّعَت عَرشَ التِّلالْ
نعمَاءُ مُهراقَةٌ على طولِ +++++ الخُطى تَشْفِي أَوجَاعَ الظِّلالْ
مِيَاهٌ مُهْراقَةٌ غِناؤُها لَحْنٌ ++++++ شَآمِيُّ يُضاهي ٱبْتِسامَ الْهِلالْ
وقال في قصيدة أخرى

أهذي جنان الخلد أم هذي بزو ++++++ منى كل نفس لو يدوم لها الفــوز
تجيء إلى تلك الجبال التي بها ++++++ زياتـين والـرمان والخـوخ والمـوز
ظلال ظليلات وماء وخضرة ++++++ فلله ما أحرزت مساكني ابـــــزو.

و قال في ثالثة

أصبحت في ابزو وتجوب ظلالها ++++++ في القلعة الغراء بين أزاهر
يا آل ابزو أهل كل فضيلــــــــة +++++++ لا زلتم في ظل عيش ناضـــر.

وقد زاد من قيمة الجلباب البزيوي أن اتخذها الملوك والأمراء، والقواد والباشاوات وكل رجالات الدول وأعيانها لباسهم المفظل في مختلف المناسبات، بل لقد توارث ملوك المغرب الظهور بهذا الجلباب في المناسبات الرسمية والخاصة منذ القديم وهذه صور للملوك الذين حكموا المغرب في العقود الأخيرة.









إن الجلباب البزيوي في المنطقة يعد أهم محرك اقتصادي: فهو أكبر مشغل لليد العاملة النسوية، بل تكاد المرأة البزيوية لا تعمل أي عمل مدر لدخل إلا وله علاقة بالجلباب البزيوي، ومن تمة فهو خالق فرص الشغل الذي يعطي قيمة للمرأة يمنحها استقلالية اقتصادية، ينمي قدراتها ومواردها المالية ويطور كفاءتها الإنتاجية، خاصة بعد أن بدأت النساء تتوحد في السنوات الأخير داخل تعاونيات بلغ عددها لحد اليوم حوالي العشرين تعاونية، استطاعت الحصول على مقر في مستوى الجلابة البزيوية أطلق عليه اسم (دار الجلابة البيزيوية) من المحتمل أن يدشنه عاهل البلاد في الأيام المقبلة.