الإستثناء في الزمان والمكان
قمة العـِراق والعـِراك العربي
ذ. الكبير الداديسي
استضافت العراق يوم الخميس 29 مارس 2012 القمة العربية وهي ثالث قمة عربية تعقد ببغداد بعد قمة 1978 والتي شاركت فيها كل الدول العربية عدا مصر بسبب توقيع أنور السدات لاتفاقية كومب ديفيد مع إسرائيل وتقرر خلالها تعليق عضوية مصر ونقل مقر الجامعة إلى تونس ...
والثانية حملت رقم 12 سنة 1990 والتي لم تحضرها سوريا حافظ الأسد الذي كان في حالة عداء مع صدام حول زعامة البعث العربي وموقف سوريا من الحرب ضد إيران ...
وبعد سنة من تلك القمة كان غزو العراق للكويت مما أدخل العالم العربي في دوامة لازال يعاني تبعاتها إلى اليوم ..
إثنان وعشرون سنة بين أخر قمة شهدتها بغداد وقمة اليوم ، أثنان وعشرون سنة شهد فيها العالم العربي أحداثا – يشيب لها الولدان - كان لها وسيبقى تأثيرها على العالم بأسره :
فإذا كانت قمة بغداد سنة 1990 قد شهدت وحدة دولة عربية هي اليمن بحضور الرئيسين علي عبد الله صلح وسالم البيض وغياب حافظ الأسد ..فإن قمة 2012 جاءت بعد انقسام دولة عربية هي ( السودان ) وغياب بشار بن حافظ الأسد
تنعقد قمة بغداد إذن وقد تغيرت أشياء كثيرة في العالم العربي : تغير الملوك والرؤساء الذين حضروا قمة 1990 ،وتغيرت النظرة للعراق إذ كان الرؤساء والملوك يتسابقون على بغداد واليوم كثير منهم متردد في الحضور ومن حضر لم ينم في عاصمة الرشيد ولا في أي قصر من قصورها إذ تم اختزال القمة في نصف يوم يتيم طبخت فيه الطبخة واجترت خطب قديمة مستهلكة وغادر كلٌ من حيث أتي وربما لن يتم توقيف محركات بعض الطائرات ..
شتان بين بغداد اليوم وبغداد الأمس ، وإن حاول حكامها اليوم استرجاع البريق المفقود :كانت بغداد مركزا قوميا يرأسها حزب قومي يرفع شعار العروبة و توحيد العرب أولا ، اليوم العراق عاجز عن توحيد ذاته: ملل ونحل فغدا العراق عراكا شيعيا سنيا . والعرب غيروا جبتهم بعد انتصار الإسلاميين أصوليين وسلفيين ووهابيين ... وأصبح شعار العروبة باهتا ينبئ باحتمال إعادة النظر في مواثيق الجامعة وبرامجها وتغييرها من مواثيق قومية إلى مواثيق إسلامية دينية.
تأتي قمة بغداد إذن لتعن نفسها قمة استثنائية في الزمان وفي المكان وقمة من نوع خاص ، قمة مختلفة عن كل القمم التي سبقت : فإذا كانت القمم الأربع وعشرون الماضية تجعل دائما فكرة الصراع مع الآخر هي المحور ( الصراع العربي الإسرائيلي / الصراع العربي الإيراني ...) فإن قمة بغداد اليوم بدا فيها صراع الآخر ثانويا لأن الذات العربية مريضة و ليس فيما ما يصارع أحد ، ويا رب تجد القوة لتنظر لحالها ...
القمم السابقة كانت تنظم في جو من التنافس حول الزعامة بين الدول العربية الكبرى ( سوريا مصر العراق السعودية ..) وهذه الدول اليوم لديها ما يشغلها عن التفكير في الزعامة فسوريا على شفا جرف هار، والعراق لا زال ينفض عن جسده تراب غبار تحالف دولي قضى على الأخضر واليابس ومصر لا زالت تلملم جراح ثورتها مما فسح المجال أمام دول قزمية للتطلع نحو الزعامة ...
عوامل كثيرة إذن جعلت المتتبعين يتنبئون بالسقف الذي قد لا تتجاوزه قمة بغداد ، فقد كان معروف سلفا أنها قد تتضمن كما هو معهود تنديدا بأعمال إسرائيل ، ودعوة لوقف العنف بسوريا لأن الكثير من الدول العربية لا زالت لم تحسم موقفها بعد من الثورة السورية ولم تعترف بالمجلس الانتقالي ... دون الجرأة على مطالبة الأسد بالتخلي عن السلطة أو الدعوة إلى تسليح المعارضة ... مما جعل من هذه القمة مجرد مأدبة وحفلة للتعارف بين الحكام العرب الجدد الذين يحضرون أول قمة عربية وهم الأكثرية مما جعل الحكومة السورية تقرر مسبقا أنها غير معنية بقرارات القمة وجعل المعارضة السورية هي الأخرى تعرف النتائج مسبقا مما جعلهم يختارون شعار ( خذلنا العرب ) شعارا لجمعتهم دون انتظار نتائج القمة . وإن رأى فيها أكثر العرب تفاؤلا قمة للشعوب وليست قمة للحكام ، وأول قمة نوقشت فيها قيم حقوق الإنسان تداول السلطة ...
دون نسيان أن هذه القمة تعقد في جو عراقي هش أمنيا رغم الحيطة والمقاربة الأمنية التي رصدت لها بغداد ميزانية ضخمة وتجاوزت حدود الحيطة إلى الشك في العديد من المواطنين وملاحقتهم واعتقالهم وحال لسان بعضهم يردد (اللهم أزح هذه القمة عن هذه الأمة ) ومع ذلك فالقمة لم تسلم من محاولات هجوم مسلح عليها ، إذ تفجرت عبوتان إحداهما قريبة من المنطقة الخضراء ومن سفارة إيران وربما لذلك دلالته ..أما دوليا فالقمة تعقد في زمن انقلبت فيه القيم الدولية وتبادل المواقع واختلاف صورة كل من أمريكا وروسيا في أعين العرب : إذ لأول مرة أصبح الغرب وأمريكا خاصة تظهر إلى جانب الشعوب العربية التي طالما رفت شعارات مثل ( أمريكا عدوة الشعوب ، وأن أمريكا مصدر كل معاناة العرب ..) في مقابل ذلك أصبحت روسيا تظهر وكأنها إلى جانب الأنظمة وضد الشعوب فبعدما فعلت ذلك في أزمة ليبيا وها هي اليوم تكرس نفس الصورة في سوريا ... مما جعل الوراق تختلط أمام العربي المتعطش للحرية ... ولإرضاء الجميع تمخضت القمة ودعت إلى الحوار بين السلطة والمعارضة في سوريا ويبني خطة كوفي عنان مبعوث الأمم المتحدة لسوريا خاصة وأن العرب هم رمى بالكرة للأمم المتحدة خوفا من تفجير الجامعة العربية .. إن القمة العربية لم تقدم نفعا ولم تداري مفسدة لقد انتهت وبقي الوضع على ما كان عليه
وفي انتظار استقرار الكرة بين الأمم المتحدة والجامعة العربية ما على الشعب السوري إلا تحمل المزيد من القتل والدم ..