السيرة الذاتية بين الصراحة والمواربة بقلم ذ. الكبير الداديسي

لعل من أكبر الإشكاليات التي تواجه كاتب وقارئ السيرة الذاتية هي مدى صدق كاتب السيرة ، ومدى التزامه بحرفية الحدث التاريخي ،وجرأته في الإفصاح عن كل ما يعلمه عن ذاته وعن محيطه
يكاد يكون الإجماع على أن كاتب السيرة الذاتية تعترضه صعوبات جمة ــ منها ما هو إرادي ومنها ما هم خارج عن طاقاته ــ تمنعه من ذكر كل تفاصيل حياته ، لعل أهمها
ــ النسيان : فالنسيان ظاهرة إنسانية ، ومهما حاول الفرد فإنه من رابع المستحيلات أن يتذكر كل تفاصيل حياته ، خاصة وأن معظم كتاب السيرة لا يقتحمون هذا العمل إلا بعد أن يبلغوا من العمر عتيا .... وبالتالي فإنهم لن يكتبوا إلا بعض ما علق بالشعور ، أما المخزون الفعلي للحقيقة الذاتية فيبقى متواريا في اللاشعور .
ــ التناسي : الأكيد أن كاتب السيرة يكون في أحيان كثيرة مضطرا للقفز على مجموعة من الحقائق لاعتبارات خاصة تختلف باختلاف شخصية كل كاتب. تدفع معظم الكتاب إلى التركيز على الجوانب الإيجابية في حياتهم ، والسعي إلى عدم كسر ود من يحبون ....
ــ الخوف : والخوف شديد الارتباط بالتناسي . وتختلف تجلياته بحسب تربية وتكوين شخصية المؤلف . فقد يكون خوفا من المحيط الضيق كالخوف من كشف أسرار أمام الأبناء أو الأسرة قد تفجر الأسرة بكاملها في مجتمع تقليدي كالمجتمع العربي .وقد يكون خوفا سياسيا فلا يجرئ الكاتب على إبراز مواقفه من الأحداث التي عاشها وتفاعل معها خاصة في مجتمع متخلف كانت الأفواه فيه مكممة وانتقاد الأحوال السياسية والاقتصادية غير ممكن ...
ــ الكذب : وأي الناس يستطيع التخلص من الكذب . فكثير هم كتاب السيرة الذين يروون أحداثا هم الفاعلون فيها ، بينما كنوا في الأصل مفعولا بهم، وينسبون أحداثا لأنفسهم هي في الأصل وقعت لغيرهم أو اقتبسوها من قراءاتهم أو مشاهداتهم .....

إذا استحضرنا هذه العوامل وغيرها أدركنا لماذا قال عبد الله العروي في مؤلف أوراق ( أنا مقتنع أن السيرة مفهوم وهمي ) وفهمنا لماذا هاجم الكثير من النقاد كتابة السيرة الذاتية. ولعل ذلك ما حدا بفرويد الى القول بأن السيرة الذاتية ليست إعادة أمينة ومركزة لوقائع حياة مثيرة وإنما هي في اغلب الأحيان تصحيح لمسار تلك الحياة و إعادة بنائها من جديد بالصورة التي كان ينبغي أن تسير عليها )(1)
يستنتج إذن أن كاتب السيرة ( معرض على الدوام للانحراف بسبب ما تمليه ظروف الكاتب زمن الكتابة) فالكاتب الذي ينسى، يتناسى، يكذب ، يحذف ، يضيف ، يتخيل،.... لا ينقل ما كان وإنما يسجل ما كان يجب أن يكون
إن الصدق في السيرة الذاتية إذن صدق نسبي أو بمعنى أدق إنه صدق فني. وسنعود إلى هذه النقطةعند تحليل (رجوع إلى الطفولة )
لقد تعدد النقاد الذين هاجموا ويكفي استعراض آراء بعض النقاد تبرز ما يعترض كاتب السيرة الذاتية من صعوبات تمنعه من المجاهرة بكل أسراره خاصة في مجتمعات كالمجتمع العربي ومن ذلك يقو محمود تيمور: نحن الشرقيون نحيا في دنيانا هذه ، وعلى أخلاقنا وسلوكنا قناع غليظ ، قلما نقول ما نعتقد ، وقلما نصارح بما نجد ، وقلما نعبر عما تطويه السرائر ... كلنا مستتر يهاجي ويوارب ... منا من يتخذ مسوح الأخيار الزهاد ويبدو في سمت المثاليين الأبرار ، وربما كتم أمر نفسه عن نفسه .. فرارا بوجهه عن وجهه فنحن أمام ضعفنا الإنساني ضعفاء عن أن نعترف به .نجاهد في أن نظهر في ثوب البراءة والطهر ، على رؤوسنا أكاليل من البطولة و الفضيلة لكي نستطيع أن نلائم ذلك مع المجتمع المنافق الكذوب الذي نعيش فيه ) كما يقول عبد الرحمان شكري : ومهما عظم نصيب صاحب الاعترافات من الصراحة فلا بد أن يكون عنده من الجبن والحزم واحترام النفس ما يغريه بإخفاء كثير من نقائصه) : (2) وحتى مؤلفة رجوع إلى الطفولة نجدها مقتنعة أن كاتب السيرة قلما يقول الحقيقة فكاتب السيرة بالنسبة لها مجرد مادح نفسه ومزكيها و(أن السيرة الذاتية تسمح للحي كله بالإشراف على وسط الدار وكشف عورتها ) 3
ومهما يكن يبقى اعتراف المؤلف ـ والاعتراف سيد الأدلة ـ هو المرجع الأساس فالكاتب عنما يقول هذه سيرة حياتي لا نملك إلا أن نعتبرها سيرة حياته و نعتبر ما بداخلها جرد لتفاصيل حياته رغم قناعتنا بخضوع ما كتب للانتقائية وضعف أي كاتب أمام الأنا الأعلى وعجزه عن سبر اللاشعور. ومن تم سنتعامل مع ما في مؤلف ((رجوع إلى الطفولة )) كأحداث تاريخية و غير قابلة للتأويل ، وشهادة على مرحلة معينة تعكس رؤية الكاتبة لمرحلة معينة من تاريخ المغرب، مع العلم أن كاتب السيرة ليس مؤرخا بالمعنى الأكاديمي للكلمة ، كما أن الكاتبة لا تعكس تجربة غنية من الناحية الفنية ، وطريقة الكتابة
بقلم ذ. الكبير الداديسي