تقديم :

جاء في معجم روبير بأن “الغير هم الآخرون من الناس بوجه عام”. كما نجد تحديدا في معجم لالاند الفلسفي جاء فيه مايلي: “الغير هو آخر الأنا، منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا، بل بوصفه أنا آخر”. ويقول جان بول سارتر: “الغير هو الآخر، الأنا الذي ليس أنا”. انطلاقا من هذه التحديدات يمكن أن نلاحظ بأن الغير هو مخالف ومشابه للأنا في نفس الوقت؛ إنه مماثل له في الإنسانية، أي يتمتع مثله بمقومات الشخص من وعي وحرية وكرامة وغير ذلك. لكنه مع ذلك يختلف عنه في الكثير من الخصائص المتعلقة بالجوانب السيكولوجية والاجتماعية والثقافية وغير ذلك. انطلاقا من هنا يطرح السؤال التالي: هل وجود الغير ضروري لوجود الغير ووعيه بذاته؟ وإذا كانت معرفة الموضوعات الطبيعية ممكنة بفضل تطور العلوم الدقيقة، فإن معرفة الغير كوعي آخر تطرح العديد من الصعوبات؛ فهل معرفة الغير ممكنة؟ وكيف تتم معرفته بوصفه وعيا؟ غير أن العلاقة بين الأنا والغير لا تنحصر في المستوى المعرفي، بل تتجلى في مستويات عدة؛ عاطفية وأخلاقية واجتماعية…فما هي طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود داخل هذه المستويات بين الأنا والغير؟ وعلى ماذا يجب أن تتأسس هذه العلاقة؟
І- وجود الغير:
الطرح الإشكالي:
إذا كان الأنا يتميز عن باقي الكائنات والأشياء بصفة الوعي، فأن وعيه هذا يتخذ عدة أشكال؛ كالوعي السيكولوجي والوعي المعرفي والوعي الأخلاقي. فمن الناحية السيكولوجية تصدر عن الأنا انفعالات مثل الحب والكراهية، كما تصدر عنه من الناحية المعرفية عمليات فكرية مختلفة مثل الشك والتخيل، ومن الناحية الأخلاقية يتميز بصفات مثل الشجاعة والكرم. ولذلك نتساءل؛ هل يمكن أن يمارس الأنا هذه الأفعال والعمليات دون حضور الغير كطرف فيها؟ فإذا لم يكن هناك وجود للغير في عالم الأنا، فمن سيحب هذا الأخير ومن سيكره؟ وهل يمكنه أن يفكر في قضايا سياسية واجتماعية وغيرها دون حضور الغير كطرف أساسي مولد لهذه القضايا؟ ثم كيف للأنا أن يعرف أنه شجاع أو كريم دون وجود الغير؟ وعلى العموم هل وجود الغير ضروري لوجود الأنا أم أنه مجرد وجود جائز ومحتمل؟
1- موقف ديكارت: وجود الغير غير ضروري لوجود الأنا ووعيه بذاته.
لقد اعتمد ديكارت على الشك من أجل بلوغ الحقيقة؛ وهكذا فقد شك في كل شيء إلا في حقيقة واحدة، بديهية ويقينية، وهي أنه يشك‘ أي يفكر، وبالتالي فهو يقينا يوجد كذات أو كجوهر مفكر. إن وجود الأنا كفكر وكوعي هو وجود يقيني لا يطاله الشك مادام أنه موضوع لإدراك حدسي مباشر، أما وجود الغير كذات مفكرة وواعية فلا يتم إثباته إلا عن طريق الافتراض أنه شبيه للأنا، وبالتالي فوجود الغير في فلسفة ديكارت يتم التوصل إليه عن طريق استدلال قياسي، وكل ما يحصل عن طريق الاستدلال فهو قابل للشك.
إن الوعي عند ديكارت هو حضور الذات إزاء نفسها، لذلك يصعب إدراك الغير كوعي آخر من طرف وعيي أنا. وهذا ما جعل ديكارت يسقط فيما يمكن تسميته بعزلة الذات مادام أنه متأكد من ذاته وحدها، في حين يبقى وجود الغير مجرد وجود افتراضي، جائز ومحتمل.
2- موقف هيجل: إثبات وجود الأنا لا يكون إلا من خلال الصراع مع الغير.
ضد الموقف الديكارتي شيد هيجل فلسفة للوعي يحتل فيها مفهوم الغير موقعا مركزيا. فكل شيء بالنسبة لهيجل يحمل نقيضه في ذاته كشرط لتحقق وجوده واستمراريته. هكذا فوجود الأنا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال وجود نقيضه أي الأنا الآخر أو الغير. فلا يمكن للوعي أن يعرف نفسه إلا من خلال انفتاحه على كل ماهو آخر بالنسبة إليه؛ أي أن الوعي يبحث عن وساطة بينه وبين معرفته لنفسه، وهذا ما ينعته هيجل بمفهوم التوسط (La médiation) .
وباعتبار الموجودات الطبيعية مجردة من الوعي، فهي موضوعات لإشباع حاجات الوعي الطبيعية، لذلك فهي تغرقه في الحياة العضوية وتجعله لا يتجاوز درجة الإحساس المباشر بالذات، ولهذا أيضا فهي لا تصلح كوساطة تمكن الوعي من تحقيق معرفة كاملة بنفسه.
إن الوعي الآخر (الغير) هو الوحيد القادر على القيام بدور التوسط بين الأنا ومعرفته بذاته؛ ذلك أن الأنا يسعى إلى الاعتراف به من طرف الآخر. غير أن هذا الاعتراف يتم من خلال عملية الصراع التي تقوم بين الأنا والغير، والتي تنتهي بإخضاع أحد الوعيين للآخر وإجباره على الاعتراف له بوجوده. وبذلك تنشأ العلاقة الإنسانية الأولى، علاقة السيد بالعبد.
وهكذا فليس للأنا وجودا حقيقيا إلا من خلال علاقته بالأنا الآخر (الغير) وليس قبلها. فوجود الغير شرط ضروري لوجود الأنا؛ مادام أن كلا من السيد والعبد يتوقف وجود أحدهما على وجود الآخر.
ІІ- معرفة الغير:
الطرح الإشكالي:
حينما نتحدث عن معرفة الغير، فإن الأمر لا يتعلق بمعرفته كجسم أو كعضوية بيولوجية بل معرفته كروح وكذات تحمل أفكارا ومشاعرا. وإذا كانت عملية المعرفة تفترض ذاتا عارفة وموضوعا للمعرفة ومنهجا تعتمده الذات لتحقيق معرفة بالموضوع، فإن الصعوبات المطروحة هنا هو أننا إزاء ذات تريد أن تعرف ذاتا أخرى؛ فموضوع المعرفة الذي هو الغير هو أيضا ذات واعية وتمتلك جهازا سيكولوجيا مثلها مثل الأنا، أي الذات الأولى التي تريد أن تعرفها. هكذا فالمعرفة المتعلقة بالغير كذات أو أنا آخر، تختلف ولا شك عن المعرفة المتعلقة بالموضوعات الطبيعية أو الأشياء المادية. فإذا كانت معرفة هذه الأخيرة ممكنة إلى حد كبير حينما تتوفر الوسائل العلمية، فهل معرفة الغير ممكنة؟ وما الذي يحول بيني وبين معرفته؟ وما هي السبل الكفيلة بأن تجعلنا نحقق معرفة بالعالم الداخلي للغير؟

1- معرفة الغير بين الإمكان والاستحالة:
أ‌- موقف جان بول سارتر: استحالة معرفة الغير.
يرى سارتر أن وجود الغير ضروري من أجل وجود الأنا ومعرفته لذاته، وذلك واضح في قوله: “الغير هو الوسيط الضروري بين الأنا وذاته”. من هنا فالغير هو عنصر مكون للأنا ولا غنى له عنه في وجوده. غير أن العلاقة الموجودة بينهما هي علاقة تشييئية، خارجية وانفصالية ينعدم فيها التواصل مادام يعامل بعضهما البعض كشيء وليس كأنا آخر. هكذا فالتعامل مع الغير كموضوع مثله مثل الموضوعات والأشياء يؤدي إلى إفراغه من مقومات الوعي والحرية والإرادة. ويقدم سارتر هنا مثال النظرة المتبادلة بين الأنا والغير؛ فحين يكون إنسان ما وحده يتصرف بعفوية وحرية، وما إن ينتبه إلى أن أحدا آخر يراقبه وينظر إليه حتى تتجمد حركاته وأفعاله وتفقد عفويتها وتلقائيتها. هكذا يصبح الغير جحيما، وهو ما تعبر عنه قولة سارتر الشهيرة:”الجحيم هم الآخرون”.
وحينما يخضع الأنا الغير للمعرفة ويتعامل معه كموضوع او شيء، فهو يفرغه من مقومات الوعي والحرية والإرادة، وبالتالي خلق هوة فاصلة بينه وبين الأنا الذي يريد معرفته. من هنا يرى سارتر أن الأنا يدرك الغير كجسم، ومن ثم فهو يدركه إدراكا إمبريقيا، والعلاقة بينهما هي في أساسها علاقة خارجية وانفصالية ينعدم فيها التواصل.
هكذا يبدو أن معرفة الغير كأنا آخر مستحيلة، مادام أن نظرتنا إليه لا تتجاوز ما هو ظاهري وتبقى مرتبطة بمجال الإدراك الحسي الخارجي.
لكن ألا يمكن معرفة الغير عن طريق الاقتراب منه والنفوذ إلى أعماقه؟ وكيف السبيل إلى تحقيق ذلك؟
ب‌- موقف ميرلوبنتي: إمكانية معرفة الغير.
يحلل ميرلوبنتي مثال “النظرة” الذي قدمه سارتر، ويعتبرها نظرة تشييئية ترتكز على النظر إلى الغير كموضوع، كما أنها نظرة قائمة على النفي والانسحاب والتقوقع حول الذات، ولذلك فهي نظرة لا إنسانية تعامل الغير كحشرة. ومع ذلك فهي نظرة استثنائية، قائمة على فعل إرادي وقصدي يفهم منه أن التواصل ممكن ولكننا نمتنع عنه بإرادتنا.
هكذا يرى ميرلوبنتي أننا حينما نعامل الغير معاملة لا إنسانية، وننظر إليه كموضوع، فإن ذلك يؤدي حتما إلى الحيلولة دون علاقة المودة والعطف بيننا وبينه، مما يؤدي إلى تعليق التواصل معه دون أن يؤدي إلى إعدامه. وهذا دليل في نظر ميرلوبنتي على إمكانية التواصل مع الغير ومعرفته. وتعتبر اللغة وسيلة أساسية لتحقيق هذا التواصل عن طريق إرغام الغير على الخروج من صمته والابتعاد عن حالة العطالة والانغلاق الكلي على الذات.
وإذا كانت معرفة الغير ممكنة، فما السبيل إلى تحقيقها؟
2- سبل معرفة الغير:
من بين السبل المقترحة لمعرفة الغير هناك “الاستدلال بالمماثلة”. ويرتكز استدلال المماثلة على التعبيرات الجسدية الخارجية التي تقوم كوسيط بيني وبين معرفة الحالات الشعورية للغير؛ باعتبار أنني أقوم بنفس التعبيرات الجسدية التي يقوم بها الغير حينما أحس ببعض المشاعر، فأستنتج أن الغير هو أيضا يحس بها حينما يقوم بتعبيرات جسدية مماثلة لتلك التي أقوم بها.
غير أن استدلال المماثلة يطرح كثيرا من الصعوبات، من بينها أن الغير قد يتستر عن مشاعره فيبدي من التعبيرات الجسدية عكس ما يبطنه من حالات وجدانية، كما أنه قد يسيء التعبير عنها، فضلا على أن بأعماق الذات مناطق لاشعورية لا يملك الشخص نفسه معرفة حقيقية بها، فكيف له إذن أن يعبر عنها للآخر بواسطة الإيحاءات الجسدية الخارجية؟!
أمام هذه الصعوبات التي يطرحها استدلال المماثلة، كأحد السبل المقترحة لمعرفة الغير، يقترح ماكس شيلر المعرفة الحدسية المباشرة التي تدرك الغير في كليته.
فمعرفة الغير تتم من خلال الإدراك الكلي الذي يجمع بين إدراك المظاهر الجسمية الخارجية وإدراك الحالات النفسية والفكرية الداخلية.هكذا فمعرفة الغير لا تتم من خلال تقسيمه إلى ظاهر وباطن، إلى جسم وروح؛ بحيث أن الأول يدرك خارجيا، والثانية تدرك داخليا، إن معرفة بهذا الشكل غير ممكنة لأن الغير كلا لا يقبل القسمة، ومعرفته لا تتم إلا بوصفه كذلك.
من هنا يرى شيلر أنه لا يمكن تجزيء ظاهرة التعبير لدى الإنسان إلى وحدات صغرى لإعادة تركيبها لاحقا، بل يجب إدراكها كوحدة غير قابلة للقسمة إلى أجزاء. فمعرفة الغير لا تتم من خلال الملاحظة والاستقراء العلميين، لأن نمط معرفة الغير كأنا آخر غير مماثلة لنمط المعرفة المتعلقة بالظواهر الطبيعية، بل إنها معرفة تتم من خلال التعاطف معه، والنفوذ إلى أعماقه من خلال الترابط الموجود بين تعبيراته الجسدية ومشاعره الباطنية؛ فحقيقة الغير تبدو مجسدة فيه كما يبدو ويتجلى للأنا، حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لمعناها ودلالاتها مباشرة كما تظهر؛ الباطن يتجلى عبر الظاهر ولا انفصال بينهما.
ІІІ- العلاقة مع الغير من خلال الصداقة والغرابة.
الطرح الإشكالي:
إن العلاقة مع الغير لا ترتد إلى مجرد علاقة معرفية، بل هي أيضا علاقة سيكولوجية وأخلاقية. ولذلك سنتساءل في هذا المحور عن نوع المشاعر التي يجب أن نكنها للغير، كما سنتساءل عن طبيعة المبادئ الأخلاقية التي يجب أن تحكم علاقتي بالغير. وإذا طبقنا هذين التساؤلين عن الصداقة والغرابة، كوجهين أساسيين من وجوه العلاقة مع الغير، فسيصبح الإشكال على النحو التالي: ما هو أساس الصداقة؟ وعلى ماذا يجب أن تنبني علاقتي بالصديق؟ وإذا كان الغير يتخذ شكل الغريب أيضا، فما هو الغريب على وجه التحديد؟ وما هي نوع المشاعر والمبادئ الأخلاقية التي يجب أن تحكم علاقتي به؟

1- الصداقة كوجه من وجوه العلاقة مع الغير:
عرف أرسطو الصداقة باعتبارها فضيلة أخلاقية، كما أنها تلك الرابطة التي تجمع بين الناس داخل المدينة، والتي إن سادت على الوجه الأكمل لم نكن في حاجة إلى قوانين العدالة أصلا. كما يرى أرسطو أن الصداقة ضرورية في الحياة سواء تعلق الأمر بالأغنياء أو الفقراء؛ إذ يحتاج الأغنياء إلى الأصدقاء لكي ينالوا المدح والثناء من جراء ما يسدونه لهم من خيرات، كما يحتاج الفقراء أيضا إلى الصداقة، إذ تعتبر الملاذ الذي يلتجئون إليه من أجل التخفيف من نوائب الدهر.
ويحدد أرسطو ثلاثة أسس تنبني عليها الصداقة؛ المنفعة والمتعة والفضيلة الأخلاقية. هكذا نكون أمام ثلاثة أنواع من الصداقة؛ صداقة المنفعة وصداقة المتعة وصداقة الفضيلة. فالصداقتان الأوليتان ترتكزان على المنفعة والمتعة، ولذلك فهما متغيرتان وزائلتان. بينما الصداقة الحقيقية هي صداقة الفضيلة التي تنبني على حب الخير لذاته أولا، وللأصدقاء ثانيا.
وفي نفس السياق حاول أفلاطون أن يحدد أساس الصداقة؛ فذهب إلى أنها تقوم على نوع من الشعور بالنقص، وتعبر عن نزوع الأنا إلى الكمال من خلال حاجته الماسة إلى الغير. هكذا فالصداقة في نظره لا تكون بين الطيبين ولا بين الخبيثين، بل بين ما ليس طيبا ولا خبيثا من جهة وبين الطيب من جهة أخرى. فلكي تكون هناك صداقة بين الأنا والغير لا بد أن تكون الذات في حالة من النقص النسبي الذي يجعلها تسعى إلى تحقيق الكمال مع من هو أفضل. ولو هيمن الشر على الذات، فإنها ستكون في حالة نقص مطلق لا تستطيع معه أن تسمو إلى الخير. ولو كانت الذات في حالة خير مطلق لعاشت نوعا من الاكتفاء الذاتي الذي يجعلها لا تحتاج إلى الصديق. فأساس الصداقة هو الرغبة في تحقيق سمو الذات وكمالها من خلال الغير.
وفي إطار البحث عن أساس الصداقة كشكل من أشكال العلاقة مع الغير، يمكن أن نقدم تصور كانط الذي أسس العلاقة بين الأنا والغير على مبادئ أخلاقية وعقلية كونية. ويتجلى ذلك من خلال حديثه عن الصداقة باعتبارها علاقة تقوم على مشاعر الحب والاحترام المتبادلة بين شخصين. وغاية الصداقة، في صورتها المثلى، هي غاية أخلاقية طيبة، تتمثل في تحقيق الخير للصديقين معا. وقد اعتبر كانط الصداقة واجبا عقليا يجب على الإنسان السعي نحو تحقيقه، وإن كان يتعذر تحقيقها في صورتها المثلى على أرض الواقع. فالعلاقة مع الغير يجب أن تراعي نوعا من التوازن بين عناصر الواجب الأخلاقي؛ بين مشاعر الحب من جهة، ومشاعر الاحترام من جهة أخرى.
لكن علاقتي بالغير لا تكون دائما في إطار الصداقة؛ إذ أكون مجبرا أيضا على التعامل مع الغريب. فمن هو الغريب على وجه الدقة؟ وكيف ينبغي أن تكون علاقتي به؟
2- الغرابة كوجه من وجوه العلاقة مع الغير:
ترى جوليا كريستيفا أنه عادة ما يتم النظر إلى الغريب باعتباره ذلك الدخيل/الأجنبي الذي يهدد أمن الجماعة، ويشكل مصدر قلق لها ومهددا لأمنها واستقرارها. ولذلك تتخذ الجماعة من هذا الغريب موقف الإقصاء والتهميش والنبذ والحقد، باعتباره عدوا يجب القضاء عليه أو على الأقل الحذر منه.
لكن كريستيفا ترفض تحديد الغريب انطلاقا من هذا التصور الشائع، وتقدم بالمقابل تحديدا تعتبره أكثر عمقا وتعبيرا عن الغرابة الحقيقية. هكذا تعتبر أن الغريب يسكننا على نحو غريب؛ فهو إذن ليس خارجيا أجنبيا بل داخليا، يسكننا، إنه يوجد فينا. إن الغرابة بهذا المعنى الأخير تتجلى في جهل الإنسان بذاته وبأعماقه ومكونات هويته. كما تتجلى أيضا في أشكال التصدع والانحلال والنسف الذي يطال النظم الثقافية والروابط الاجتماعية والقيم الأخلاقية للجماعة البشرية، مما يجعل الفرد يشعر بالغرابة داخل بلده وبين أهله.
هكذا إذا كان الغريب، حسب كريستيفا، قابع فينا ويسكننا من الداخل، وجب أن لا تكون علاقتنا به مبنية على الكراهية والعداوة والإقصاء والعنف، بل يجب أن تكون مبنية على الحب والتسامح والسلم والاعتراف المتبادل.

[justify]