التحولات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والفكرية في العالم في القرن 19.


مقدمة: عرف العالم الرأسمالي خلال القرن 19 تحولات اقتصادية ومالية واجتماعية وفكرية عميقة، تميزت ببروز الرأسمالية المالية 1850-1914، التي كانت لها انعكاسات على عدة مستويات: زيادة الإنتاج، تزايد الصراع الطبقي، ظهور النقابات، بروز الفكر الاشتراكي تحت تأثير الفلسفة الماركسية.
I مظاهر التحولات الاقتصادية والمالية للعالم الرأسمالي خلال القرن 19:
1. أسس التحولات الاقتصادية في العالم خلال القرن 19 اعتمدت هذه التحولات على عدة اختراعات وتطبيقات تقنية جديدة نذكر منها:
أ‌- على مستوى مصادر الطاقة ووسائل النقل: كان من مظاهر الثورة الصناعية اختراع المطرقة البخارية ومحول بيسمر لصهر الحديد، والمصباح، وقاطرة استيفنسن، والقاطرة الكهربائية، والمحرك الانفجاري، مع ظهور سيارة أول سيارة فورد، آلة حصاد والجرار.
ب‌- على مستوى التعدين: إنتاج الألمنيوم كهربائيا، وفرن مارتان، الدينامو.
ت‌- على مستوى الكيمياء: إنتاج الأسمدة الكيماوية، اختراع الأسبرين، الحرير الاصطناعي ، الأسبرين، التلقيح.
ث‌- اختراعات أخرى : البطارية، الديناميت، الهاتف.
وقد لعبت معارض المنتجات الصناعية دورا هاما في انتشار هذه الاختراعات بمختلف أنحاء أوربا.
2 تطور القطاع الفلاحي كما ونوعا وساهم في تقوية النظام الرأسمالي :
v على مستوى التقنيات : تم استعمال آلة الحصاد البخارية، وآلة الدرس، والأسمدة الكيماوية، إلى جانب استعمال وسائل النقل المكيف.
v على المستوى التنظيمي:
* اعتماد أساليب زراعية متطورة، حيث تم اعتماد نظام التناوب الزراعي لمنتوجات متعددة موجهة لتغذية الإنسان، أو علف الحيوانات من أجل تجنب إنهاك التربة،
* ظهور قانون التسييج في بريطانيا الذي أدى إلى توسيع الملكيات الزراعية وظهور التركيز العقاري، مما سمح باستخدام الآلة على نطاق واسع.
وقد أدت هذه الإجراءات إلى:
تضاعف الإنتاج الزراعي. ارتفاع المردودية. (الحبوب 17.7 ق/هكتار) - تزايد إنتاج الحبوب خاصة القمح. - تزايد أعلاف المواشي. جودة القطيع المواشي كما وكيفا.
- تزايد مداخيل وأرباح الفلاحين. وقد ظهر نوع من التخصص في الإنتاج الفلاحي على المستوى العالمي
.
3 عرف القطاع الصناعي تحولات جوهرية عميقة
- أسباب هذا التحول:
* ظهور عدة اختراعات تقنية كمحول بسمر لصهر الحديد، والمحرك الانفجاري، والمطرقة البخارية، وفرن مارتان، وتوليد الكهرباء.
* بروز مصادر طاقة جديدة (الكهرباء والنفط إلى جانب الفحم والبخار)
* تجمع النشاط الصناعي في المعمل (مانفاكتوراة) نتيجة الاعتماد على الآلة، فظهر تنظيم للعمل حيث يقوم العمال بالإنتاج، والأطر المؤهلة بالمراقبة، ورب العمل بالتوجيه. * الاعتماد على العمل الآلي في الإنتاج: حيث ساد استعمال الآلة على نطاق واسع، مع ظهور تقسيم العمل وفق ما تفرضه طريقة العمل المتسلسل.
-أهم نتائج التطور الصناعي:
. تزايد إنتاج الطاقة والمعادن كالفحم والبترول والغاز، والطاقة المائية والحديد. . تعميم المكننة في كل مراحل الإنتاج. . تزايد قيمة الصادرات الصناعية. . ارتفاع المردود الصناعي. . تضاعف مساهمة الصناعة في الناتج الوطني الخام.

II الرأسمالية المالية خلال القرن 19: أسسها - مميزاتها.
1 مرت الرأسمالية بعدة مراحل منذ القرن 15:• مرحلة الرأسمالية التجارية: جاءت إثر الاكتشافات الجغرافية خلال القرن 15 حيث شكلت التجارة مصدر قوة وثروة البورجوازية التجارية (الميركانتيلية) ظهور مدن كبرى، وتضاعف المعاملات النقدية، وظهور الأبناك.
• مرحلة الرأسمالية الصناعية: جاءت إثر الثورة الصناعية خلال القرن 18، ظهر خلالها التركيز الرأسمالي، وازدادت المنافسة الحرة، وظهر العمل الآلي، ومصادر جديدة للطاقة.
. مرحلة الرأسمالية المالية : برزت إثر الثورة الصناعية الثانية في أوربا، حيث أصبحت الأبناك تساهم في الاستثمار، وتحكمت في النظام الرأسمالي، فأصبحت مؤسسة بنكية رأسمالية صناعية،. كما برزت الشركات مجهولة الاسم أو شركات الأسهم، وتزايد تأثير البورصة في الاقتصاد؛ فتحكم الرأسمال المالي في الرأسمال الصناعي
.
2. العوامل التي أدت إلى تحولات الرأسمالية خلال القرن 19:
هناك عوامل مختلفة ومتداخلة فيما بينها تفسر هذه التحولات المعززة للرأسمالية الاقتصادية يمكن رصدها كالآتي:

• دور التقدم التقني والعلمي : شهد القرن 19 أحداثا تقنية وعلمية غيرت مجرى عملية الإنتاج والنقل والتسويق بشكل عزز النظام الرأسمالي من خلال اقتصاد الزمن والكلفة والرفع من الجودة وحجم الإنتاج. وقد برزت طرق وأساليب وتقنيات جديدة في قطاعات اقتصادية مختلفة ( الفلاحة، الصناعة، التجارة) أعطت قيمة مضافة للإنتاج الرأسمالي كما ونوعا (طريقة بيسمر لإنتاج الفولاذ).

• دور العامل التنظيمي : خلال القرن 19 تعززت روح النهج الاقتصادي الليبرالي سواء في الإنتاج أو التبادل، وتدعم قانون العرض والطلب، ومنطق المنافسة، والسعي إلى الربح. مما حتم التجديد المتواصل للتقنيات والأساليب، فحل المصنع العصري محل الورشة التقليدية، والضيعات الرأسمالية، والمتاجر العصرية الكبرى

إن أهم ما ميز الراسمالية المالية هو: التركيز الرأسمالي الذي أدى إلى ظهور مؤسسات احتكارية كبرى لذا تنعت هذه الرأسمالية بالرأسمالية الاحتكارية، التي ظهرت نتيجة إفلاس المؤسسات الصغرى ـ بسبب المنافسة ـ وابتلاعها من طرف الشركات الكبرى، تحتكر سوق الإنتاج.

من أشكال التركيز:
*تركيز أفقي: اندماج شركات متشابهة الإنتاج.
* تركيز عمودي: اندماج شركة متكاملة الإنتاج.
مؤسسات التركيز:
o التروست : اندماج عدة شركات داخل مؤسسة واحدة على أن تفقد المؤسسات المندمجة استقلالها المادي وشخصيتها القانونية.
oالهولدينغ : أو التركيز المالي وهي عندما تشتري مؤسسة بنكية أو صناعية أغلب أسهم شركات أخرى.
• دور ثورة المواصلات في التحولات الاقتصادية المعززة للرأسمالية:
شهد القرن 19 بروز السكة الحديدية التي أحدثت ثورة اقتصادية في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى تطور النقل البحري وإسهامه في تعزيز التجارة البعيدة المدى عبر أرجاء العالم.

• دور الفاعلين الجدد في تنشيط الرأسمالية خلال القرن 1 أصبحت الرأسمالية خلال القرن 19 موجهة من طرف الأبناك التي صارت تقوم بوظيفة الأعمال والاستثمارات الكبرى، والمقاولات الكبرى التي بات أصحابها يتحكمون في الاقتصاد والسياسة على حد سواء (أوجين شنيدر)، وأخيرا هناك الشركات المجهولة الاسم أو شركات الأسهم أصبحت هي القلب النابض في الرأسمالية المالية؛ إضافة إلى البورصة. إن هؤلاء الفاعلين ساهموا في توسيع الرأسمالية وازدهارها سواء في أوربا الغربية أو الولايات المتحدة الأمريكية.

III.التحولات الاجتماعية والفكرية التـي واكبت
تحولات الاقتصاد الرأسمالي في القرن 19.
1 عرفت اوربا تحولات ديمغرافية واجتماعية كبيرة:
-- التحول اليمغرافي والحض
عرفت ساكنة أوربا الغربية زيادة كبيرة خلال القرن 1 نتيجة النمو الديمغرافي المرتفع (العصر الديمغرافي الجديد فقد تضاعف عدد سكان بريطانيا 03 مرات من ق 18 إلى أواسط ق 19، ويعزى ذلك إلى انخفاض نسبة الوفيات وارتفاع نسبة الولادات بسبب تحسن المستوى المعيشي والتطور الطارئ للمجال الصحي
من جهة أخرى تضاعف عدد السكان الحضريين مقابل تراجع عدد السكان القرويين( الهجرة القروية) فظهرت مدن كبرى (لندن، نيويورك، باريس، برلين) استقطبت المهاجرين للعمل بالأنشطة الاقتصادية الجديدة، فتوفر لدى البورجوازية احتياطي ضخم من اليد العاملة تعرضت قوة عملها لاستغلال فاحش.




-- التغيير في بنية الطبقات الاجتماعية
أدى تطور الرأسمالية المالية إلى بروز طبقتين اجتماعيتين متصارعتين:

+ البورجوازية: تمتلك أغلب وسائل الإنتاج (مصانع، وسائل النقل، الأسهم...) تتعاطى أنشطة صناعية ومالبة وتجارية وتراكم الثروات ( فائض القيمة) باستغلال الطبقة العاملة، تعيش حالة من الرخاء والبذخ المادي
+ البروليتاريا: وهي الطبقة العاملة كثيرة العدد، ورخيصة الأجر، تعرض قوة عملها للبيع بثمن بخس، معرضة للاستغلال الرأسمالي، تعيش أوضاعا مزرية (طول ساعات العمل، الأمراض، ضعف الأجور، تشغيل الأطفال، سوء التغذية...
أدى هذا التفاوت الطبقي إلى صراع طبقي عنيف.
3. تعددت التيارات الفكرية خلال القرن 19 كان أبرزها الفكر الاشتراكي:
+ التيار الليبيرالي الكلاسيكي: نادى بالحرية الاقتصادية للفرد، والمبادرة الحرة، والسعي وراء الربح، والتبادل الحربين الدول يمثل البورجوازية. من أهم مفكريه (آدم سميث وريكاردو...)
+التيار الاشتراكي الفوضوي: طالب بضرورة تغيير الأوضاع بالثورة نتيجة خضوع الفرد للمراقبة والتوجيه من طرف الدولة، مما يحد من قدرة الفرد وحريته، غير أن هذا التيار عجز عن تقديم حلول واقعية للحياة الاقتصادية. من أهم رواده برودون .
+ التيار الاشتراكي العلمي : اعتبر التاريخ البشري تاريخ صراع طبقي بين طبقة مستغلة مالكة لوسائل الإنتاج، وطبقة مستغلة محرومة منها، ونهاية هذا الصراع هو ثورة عامة للمجتمع تمكن البروليتاريا من السيطرة على وسائل الإنتاج، وإقامة مجتمع اشتراكي تتحقق فيه المساواة. من أهم مفكريه (كارل ماركس، وفريدريك إنجلز)، وقد تسلحت البروليتاريا بهذه الإيديولوجية.
+ الاشتراكية الطوباوية : طالبت بالحد من الرأسمالية المتوحشة، وإقامة نظام اجتماعي تسود فيه العدالة والتعاون. مثله (سان سيمون، فوريي، أوين)
4.عرف القرن التاسع عشر ظهور الحركة العمالية، ونشأة النقابات:
أدى التحول الصناعي إلى تزايد عدد المأجورين الذين عانوا من استغلال فاحش، وتضررت أوضاعهم: الأجور ضعيفة، طول ساعات العمل (15 ساعة يوميا)، تشغيل الأطفال والنساء، الأمراض... وكرد فعل على ذلك، ومع تزايد الوعي العمالي تشكلت التنظيمات النقابية للدفاع عن حقوق العمال وتحسين أوضاعهم الاجتماعية والمهنية، فلجأت إلى أسلحة مختلفة لمواجهة الاستغلال البورجوازي مثل الإضرابات، والتحالف مع الأحزاب الاشتراكية، وقد نجحت في انتزاع عدة مكاسب مثل الحد من تشغيل الأطفال، وتحديد ساعات العمل، والتأمين ضد المرض، وحوادث الشغل، الاعتراف بحق الانتماء النقابي وبحق الإضراب..
خلاصة: لقد تعززت الرأسمالية خلال القرن 19 بفعل مجموعة من التحولات الاقتصادية والتقنية والمالية، وكان ذلك انعكاسات على بنية المجتمع ونمط التفكير، مما خلق حركية للمجتمع الرأسمالي.


0 هنري بسمر: مخترع إنجليزي، اخترع طريقة لانتاج الفولاذ بأقل تكلفة بعد إزالة الشوائب الحديدية. o قانون التسييج : أصدره البرلمان البريطاني بعد عجز الفلاحين عن الإدلاء بوثائق تثبت ملكيتهم للأراضي التي استولى عليها الملاكون الكبار وأقاموا ضيعات كبيرة (تركيز عقاري) سمح باستعمال الآلة.
oالتناوب الزراعي: هو نظام لاستغلال الأرض يعتمد تقسيمها إلى عدة أجزاء، كل جزء يتخصص في منتوج معين خلال موسم فلاحي، ويتم استبداله في الموسم اللاحق لتفادي إنهاك التربة مما أدى إلى زيادة المردودية والإنتاج.
oنظام إراحة الأرض : نظام قديم لاستغلال الأرض يعتمد على تركها بدون زراعة لأكثر من موسمين فلاحين، لكي تسترجع الأرض مقوماتها العضوية ولتفادي إنهاك التربة.
o ماشينفاكتوراة : تجمع صناعي يعتمد في الإنتاج
على الآلة.
oنظام العمل : يخضع فيه العامل لنظام دقيق من حيث التوقيت وطريقة العمل مقابل أجر نقدي.
oالعمل المتسلسل: طريقة في الإنتاج الصناعي تعتمد على تقسيم العمل إلى عدة عمليات إنتاجية تعتمد على التخصص.
oالميركانتلية: أو المذهب التجاري، نظام اقتصادي يعتمد على التجارة كمصدر للقوة والثروة للطبقة البورجوازية جاءت إثر الاكتشافات الجغرافية.
o مجهولة الاسم: ظهرت منذ ق 19 وهي عبارة عن شركات مساهمة تعتمد على اكتتاب عدة مساهمين في رأسمالها عبر شراء الأسهم، تتحدد فوائدهم حسب أرباح الشركات.
0 البورصة: أو سوق القيم وهي سوق مالي يتم فيها تداول الأسهم والسندات.
oفائض القيمة: هي الأرباح التي يحصل عليها البورجوازي بعد استغلال العامل وإعطائه أجرا هزيلا يعرف بحد الكفاف.