ينزل الوليد من بطن أمه لا يعلم شيئاً , ثم يبدأ شيئا فشيئا بإدراك ما حوله بدءاً من نعومة أظافره حتى مشيبه , و المعلومات المسبقة : هي الإدراك العقلي للبديهيات الفكرية و لوجوه الإحساس في أبسط أشكالها , فمثلاً وعي أن الألوان من حيث هي ألوان و الروائح من حيث هي روائح و الأصوات من حيث هي أصوات و النكهات من حيث هي نكهات و أن الكل اكبر من الجزء و هلم جراً فهذه البديهيات الواعية هي أفكار على بساطتها فالقدرة على التمييز ما بين الأشياء تعد اللبنة الأساسية للتفكير, فهذه الركائز هي أمور مسلم بها يدركها الإنسان فطرياً , وهنا تحدث المفارقة العجيبة التي تجابه بأفكار عمياء صماء !!؟؟ , فمن أين أتت ؟؟ , وهنا يبدأ المتحذلقون و الفلاسفة النوابغ بالإجابة , لنرى , إن فريق منهم يقول بالتجربة , وهنا ماذا لو قلنا لهم أن فرضهم العلمي فاسد من هذا المنطلق , إذ أن التجربة تحتاج إلى العقل لاستخلاص النتائج فإن لم يوجد العقل أصلا فما نفع التجربة , ثم ينطلق فريق منهم ليقول أن البنية الحسية تقتضي ذلك و هنا دع العلم نفسه يجيبهم بأن افتراضهم ليس فاسداً وحسب بل وعقيم , و بعد فهم الحس فهما كافياً فماذا يقول اليقين لنا ولهم : أن الإحساس لا يولد ولا يوحي بوعي أبدا فالإحساس هو مجرد إحساس , فإن أردت مثلاً فخذ كتابا بلغة لا تعرف أي شيء عنها ككتاب بلغة أجنبية عنك و اعمد إلى إحساسه ليل نهار بكل سطر فيه وعندما يوحي لك إحساسك بفهم سطر أرجو أن تخبرنا كي نسجلك ضمن الظواهر غير الطبيعية و يجب علي أن أنبه أن الإحساس غير منفصل أبدا عن إدراك ما ولكن الوصول إلى الإدراك المطلوب هو موضوع آخر, فمن المسبب يا ترى في وعينا إذ أن لكل سبب من مسبب فمن واضع ومدبر وخالق وعينا , ولا يخفى على أحد أننا نتحدث عن الله فهو القادر الكامل الذي جعلنا على ما نحن عليه الآن , و لا أعرف من الذي قال بوجود مشكلة بين المعرفة و الله فنحن لا نرى وجودها إطلاقاً فالخضوع لله أولى واجبات العالم , و الخالق قادر كامل لا يستند بوجوده إلى شيء و تستند المخلوقات كلها بوجودها إليه , و كما لاحظت يا عزيزي فيبدأ الإنسان بإدراك ما يخص صفات ذاته ( أن يبدأ بإدراك نفس طبيعة العمليات العقلية و التعبير الشعوري لذاته في التعامل مع الطبيعة قبل إدراك الطبيعة ذاتها ) . وكما رأيت فإن المعلومات المسبقة تنقسم إلى قسمين :-

1- الإدراكات الحسية :- و هي إدراك الألوان و الأبعاد و الكميات و الأصوات و الروائح و الملموسات و النكهات و المساحات , وإن كان الإدراك هنا معناً على محسوس .
2- الإدراكات المعنوية :- الصفة الثنائية , العلة والمعلول , و التركيب والتجزيء(التحليل ) , و التجريد والتعميم , و الجوهر والعرض(الباطن و الظاهر) , و الوحدة و الكثرة , و الإمكان والوجوب , و الوجود و العدم , وهذه المعاني ليست متحررة من الحس بل متعلقة تمام التعلق به .

و هي كعمليات عقلية لا توجد مرة واحدة عند الإنسان و إنما توجد على مراحل متفرقة , تبعا للنضوج العقلي , مع العلم أن الإنسان لا يملك منها شيئاً حال ولادته , و الصفة الثنائية تعني أن الصفات تأتي على وجهين كبير و صغير و طويل و قصير و قوي و ضعيف و هكذا و هذه البديهية من أهم البديهيات إذ أنها ركيزة للتمييز و الإدراك , فالتمييز بديهية فكرية أساسها المقارنة.


التفكير

و هنا نصل إلى أنّ التفكير حكم على واقع أو هو الربط بين فكر مسبق و واقع مثل قولنا أن السماء زرقاء فقد حكمنا هاهنا على السماء بالزرقة فعملية الربط تمت بين مساحة ولون, ولا جرم أن معنى العقل لغة وهو أداة الفكر هو"الربط"وهنا نبدأ بالتعرض للتفكير من جوانب أخرى .
و نقول هنا أن التفكير هو : إستذهان و تصديق .
و الاستذهان هو حصول ( أي تمثل) المحتوى الحسيّ في الدماغ بعد نقله بوساطة الحواس , بحيث أصبحت مستقلة عن الواقع , فالاستذهان هو وجود تمثيل للواقع في الذهن , و الذهن هو مكان حضور التمثيل هذا .
و هنالك خمسة أنواع من الاستذهانات و هي :-
1 الاستذهان البصري : و هو حضور المحتوى البصري في الدماغ .
2 الاستذهان السمعي : و هو حضور المحتوى السمعي في الدماغ .
3 الاستذهان الشمي : و هو حضور المحتوى الشمي في الدماغ .
4 الاستذهان اللمسي : و هو حضور المحتوى اللمسي في الدماغ .
5 الاستذهان التذوقي : و هو حضور المحتوى التذوقي في الدماغ .

و تستطيع الذاكرة تخزين هذه الاستذهانات , و الذاكرة : هي وحدة حيوية داعمة تستطيع تخزين المعطيات العقلية و استرجاعها , ومعطيات الذاكرة هي :-
1- الأفكار .
2- الاستذهانات .
3- الأحاسيس الشعورية .

و هنا نستوثق مدى العلاقة الوطيدة ما بين الحس و العقل , و يظهر لنا أن اكتمال الحلقة الفكرية يستوجب اكتمال الحلقة الحسية , و يستحيل اكتمال المفاهيم العقلية عند فاقد إحداها ما لم تكن له خبرة مسبقة حولها , فلا يستوي الأعمى و البصير و لا السميع و الأصم .


المفاهيم

قد قلنا أن الفكر هو حكم على واقع بالأصل و مفرده فكرة واحدة , ولتسجيل هذه الأفكار لا بد من وجود قالب توضع فيه بهدف حفظها أي تدوينها أو نقلها لشخص أو أشخاص آخرين و هذا القالب هو اللغة , فاللغة هي وعاء الأفكار , ولهذا فقد أطلق اليونانيون اسم المنطق (فن النطق) على فرع المعرفة الذي ابتكروه الذي يبحث الأفكار من حيث هي أفكار , كما أن اللغة نفسها تحمل في طرقها و أساليبها العمليات الفكرية على تنوعها , مثل أساليب التفضيل و المقارنة و الاستثناء و غيرها فالبحث في أساليب اللغة نفسها لهو بحث في الفكر على اختلاف القصد من البحث .

و تتمثل اللغات في عصرنا الحاضر في أشكالها المحسوسة , سواء كانت المقاطع الصوتية التي تمثل مفردات اللغة أم كانت الرموز المرئية التي تمثل مفردات اللغة أيضاً , فكل اللغات متفقة من حيث المعنى ( الفكر) مختلفة من حيث اللفظ , وهناك أربع مهارات تتعلق باللغة و هي :
1- التحدث .
2- الاستماع .
3- الكتابة .
4- القراءة .

فالتحدث و الاستماع تدوران حول شكل الفكرة المسموعة كما أن الكتابة و القراءة تدوران حول شكل الفكرة المرئي , أو يمكن أن تكون القراءة والكتابة بالشكل المحسوس كالكتابة بطريقة بريل . أو أن يكون التخاطب مرئيا وليس صوتيا مثل التخاطب بإشارات الصم و البكم .

حسناً إن اللغة على ذلك قد تكتسب و تنقل من شخص إلى آخر و لكن الوعي العقلي ليس مضمون الوصول إلى المتلقي , أي أن حصول الوعي نتيجة التفكير لا تحمله اللغة إلا إذا أدرك المستقبل (المتلقي) أن المعنى اللغوي هو كذا , وعليه فيقال أن إدراك ما تعنيه الفكرة في الواقع هو الفهم , ولا يتأتى إدراك أي فكرة إذ لم يكن لها ما يمثلها في الواقع , فنقول أن الفهم : هو إدراك التمثيل الواقعي للفكرة , و المفهوم : هو وجود تمثيل واقعي للفكرة .
فالفكرة التالية : " إن الإنسان كائن حي" تعتبر مفهوماً إذ أن لها ما يمثلها في الواقع و يمكن إدراكه .
( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (Cool سورة الحج .
و من هذا المنطلق فإن المفاهيم على ثلاثة أنواع و هي :
ا – المفاهيم المباشرة
و هي تلك المفاهيم التي يدرك العقل وجودها في الواقع مباشرة . مثل الحاجات العضوية .
ب – المفاهيم غير المباشرة
و هي تلك المفاهيم التي يدرك العقل وجودها في الواقع من إدراكه لأثرها . مثل : الغرائز والروح و هي للواقع غير الفيزيقي عادة .
ج – المفاهيم النقلية
و هي تلك المفاهيم التي لم يدرك العقل وجودها في الواقع الخارجي لا مباشرة و لا إدراكاً لأثرها و لكنه أدرك وجودها عن طريق الدليل النقليّ المقطوع بصحته . مثل : الملائكة و الجنة و النار و غيرها و يجب أن نعرف أن الأمور ليست على الإطلاق لنخرج من دائرة الجمود فهذا من خصائص المعرفة العلمية القويمة فما من شأنه أن يكون مفهوما غير مباشر للبعض قد يكون مفهوماً مباشراً للبعض الآخر و ما قد يكون مفهوماً نقلياً للبعض قد يكون مفهوماً مباشراً أو غير مباشر للبعض الآخر .

و هنا نقول أن ما يبرهن على وجود المفهوم في الواقع الخارجي هو المدلول , فما يدل من الواقع على وجود فكرة هو مدلول هذه الفكرة و يمكن القول أن الدلالة تعني أن العلم بوجود شيء يستدعي استتباع العلم بوجود شيء أخر في الذهن ملازم له , و عليه فيقال أن الفكر هو مدلول الجملة اللغوية , و الجملة اللغوية فكرة و فهمها فكرة أخرى .

و بناء على ما تبين هنا نقول أن مطالعة كميات ضخمة من الكتب و البيانات لا تجعل من الشخص عالماً ناهيك عن كونه باحثاً (فحتى كلمة العلم تأتي بكلمة علامة أي دلالة إشارة رابطة للأفكار), إذ يقتضي الأمر من العالم أن يكون مدركاً دلالات المعرفة وهذا ما يحتاج لتدبر و تفكير أما الباحث فعبؤه ثقيل فهو يقارب و يباعد و يقيس و يستجلب معلومات و يقصي أخرى .
الإدراك
و يتبين معنا أن الإدراك هو التوصل إلى فهم التمثيل الواقعي الذي تحمله هذه الأفكار كاللغة , حيث أن الفكرة قد تم تشكيلها سابقاً . و الإدراك يقوم على فهم الدلالة المعنوية في واقع الحال لتلك القوالب الحسية كدلالة الألفاظ اللغوية فهو المستوى التالي بعد المستوى الفكري , وحيث أعتبر سبق الفكر المسبق للأفكار التي تليه و بنائها عليه فأعتبر أن كل الفكر هو إدراك , وهنا أتعرض لمسألة انطلاق الأحكام الفكرية هل هي من الفكر أم من الواقع فقد صح أن الواقع ركن لكنه لولا تلك الأفكار المسبقة لما كان هناك من إدراك أبدا ً و عليه فالانطلاق يكون من الفكر لا من الواقع مع كل الاعتبار لشكل الفكر هذا الذي سيسند إليه الفهم و هي التي تعتبر حقاً أداة فهم وتمحيص الواقع بالشكل الحقيقي , وهل تلك الأدوات الفطرية يمكن تبينها هكذا , و أعتقد إن التجريد يفيد هنا مع مراعاة فصل تأثير الذاتية و الأنا و لكن ضعف القدرة على فصل الهوى والأماني وما للنفس من خصائص يجعل فصلها صعباً