الأستاذ اليوم مطالب بإنجاز كل المهام؛ فهو الأب، الصديق، المربي، المساعد النفسي، المراقب التربوي، ممتص الصدمات، كل شيء يقوم به هذا "الزغبي".. ولا أحد يجد له عذرا لو أنه أخفق في مهمة تكوين أجيال المستقبل.. مثله في ذلك مثل "مول الفران" الذي ينظر إليه الكل على أنه المسئول عن منتهى الخبز.. فمهما أخطأت معدة العجين أو أتقنت عملها، فإن الأنظار تتجه نحو ذلك المسكين القابع بتلك الحفرة المواجهة للنار، فإن كان الخبز رائع المذاق جميل النظر، فــ"مول الفران" قام بعمله على أحسن ما يرام، وإن لم يكن، فهو من سيلام.. كذلك الأستاذ، فمهما تعددت المناهج، وتنوعت الطرائق، ومهما ابتدعت الوزارة من بدع ما أنزل الله بها من سلطان، فهو المطالب بالتصفية والتدقيق والتمحيص وتكييف المصادر.. وإن أحس بثقل المسئولية فما عليه إلا "بالتكيف" من مصادر "كتامية" حتى يتسنى له التركيز أكثر..

مهما أخطأت الأسرة أو تكاسلت في التربية، ومهما ميع إعلام آخر الزمان، ومهما صنع الشارع بالتلميذ، فالأستاذ مطالب بالصبر، والتعامل المرن، ومعرفة مرجعية كل تلميذ، والتعامل مع كل حالة على حدة..

مهما شرّد الطلاق المستشري، ومهما أفسد الأبوان غير المسئولين، ومهما يَتّم التفسخ العائلي، فالأستاذ مطالب بالإصلاح والمساعدة المادية والمعنوية؛ هذا ما تمليه الأخلاق والضمير..

مهما عاب هذا الأستاذ على مراكز التكوين التي يلجها هؤلاء المزغوبين قصد الإعداد، ومهما ضعفت الطرائق، ومهما كان المكونون مقصرين في عملهم، فالأستاذ مطالب بأن يكون كفؤا، ولو لم يكن له كفؤا أحد..

مهما وظفت الدولة بطريقة مباشرة، ودون تكوين، فقط لإبعاد اللوم عنها وامتصاص البطالة، فإن اللوم يكون من نصيب الأستاذ إن هو أخفق في فرض كفاءته وخبرته..

مهما اعوج الموظفون الآخرون، ومهما ارتشوا واغتصبوا وتحرشوا وابتزوا، فالتهمة لصيقة بالأستاذ

مهما كان الآخرون شياطين عن جدارة واستحقاق، ومهما كبرت غرائزهم المختلفة، فعليه هو أن يربط جأشه ويجمع رأسه قبل أن يجمعوه. عليه أن يكون ملاكا "ما تاينوّض ..... دجاجة بيضها"

مهما غضب الآخرون، ودافعوا عن أنفسهم، فعليه أن يصبر لأنه "مربي"، وإلا أصبح "مربى" تلتصق به التهم كلها..

مهما وضع أي موظف آخر معطفه فوق أريكته، وخرج لاحتساء قهوة، والانتشاء بنظرة، فعلى الأستاذ أن يقدم درسه بكل تفان وأن يركز، فإن هو غفل ولو قليلا فإن رائحة "الشياط" تزكم الأنوف، وصياح التلاميذ يبلغ المدى..

مهما أضاع الآخرون من وقت المواطنين، فعليه ألا يضيع ولو دقيقة واحدة.. مهما أضرب رجال الجماعات بالجملة، ورجال النظافة بالتقسيط؛ مهما أضرب الأطباء والممرضون، فإن تعلّم المواطن أهم بكثير من صحته التي هي على المحك دون إضراب.. وإضراب الأستاذ أمر منبوذ.. إذ يجوز في بلد الاستثناء أن يموت المريض على سرير المستشفى وتلد الحامل أمام بابه، ولا يجوز أبدا أن تضيع "فلذات أكبادنا" في دروسها التي تكتبها في دفتر وتضعه في الجيب الخلفي دلالة على أهمية التعلم في بلد المتناقضات..

مهما خرج الموظفون وأضاعوا من وقت العمل ساعة أو ساعتين بحجة "تناول وجبة الغذاء"، ومهما انصرفوا باكرا بذريعة صلاة الجمعة، وجباههم لا تدل أبدا على الصلاة، فعلى الأستاذ ألا يتغيب لأن جمعية "ما تقيش وقتي" له بالمرصاد..

مهما وضعت تلميذات "من نوع خاص" من مساحيق، "وزيرت" من ملابس تميزها الشفافية والوضوح، فعلى الأستاذ أن يبتلع لعابه ويكتم غيظه وأشياء أخرى؛ وإلا فجمعية "ماتقيش القاصر ديالي" في انتظاره في "الدورة"..

مهما غادر الموظف مكتبه عند الثالثة زوالا، واستمتع بكامل وقته، إذ لا عمل بالبيت، ولا تحضير، ولا إعداد، ولا ضغط، ولا تصحيح.. فعلى الأستاذ أن يقبل بالنقد، فهم يقولون إنه يعمل فقط "نص نهار"... والله أعلم

الأساتذة.. أولاد الحرام..

رغم ما سبق، فإن الأستاذ أكبر ولد الحرام على وجه البسيطة، لأنه يضرب عن العمل، استجابة لنداء النقابات، ومطالبا بحقوقه المشروعة، ويضرب كذلك عن "الطعام"، حيث يحكي عنه شعب النكت أنه يقسم أضحية العيد إلى 365 قطعة. كما يضرب عن أداء "التدويرة" لبعض رجال المراقبة الطرقية، فيتهمونه بذلك بأنه ليس "عمليا"، أي أنه من أهل "شكرا" فقط، هكذا يقولون.. وفوق كل هذا وذاك، يضرب كفا بكف ويقول: "لا لبيداغوجيا الإدماج!".

الأستاذ ولد الحرام لأنه من حين لآخر يستفيد من زيادات ضخمة في الأجر قد تبلغ 100 درهما أو 200.. مما يجعله مادة إعلامية دسمة، لأن هذه الزيادات خطيرة على الميزانية بالمقارنة مع الزيادات الهزيلة التي لا تتجاوز 5000 درهم، أو ربما 15000 يستفيد منها رؤساء الأقسام، ورجال أمن، وبرلمانيون ينامون في حصة الأسئلة الشفوية، وبرلمانيات يعرضن مفاتنهن على الكراسي، ربما في خطوة جريئة للكشف عن الممتلكات، دون ذكر الإتاوات المختلفة التي لا تعد ولا تحصى..

الأستاذ ولد الحرام فعلا لأنه يستفيد من العطل البينية، والعطلة الصيفية، هذه العطل التي إذا عددناها وجدناها تعادل تماما ما يستفيد منه باقي موظفي الدولة من العطل، ذلك أن الأستاذ استفاد هذه السنة مثلا من حوالي 36 يوم عطلة، وعطلته السنوية حوالي 40 يوما؛ في حين أن موظفي الإدارات العمومية يستفيدون من 52 يوم عطلة أيام السبت التي يعملها الأستاذ، إضافة إلى العطلة السنوية..

الأستاذ أيضا يستحق الوصف السالف الذكر لأنه إذا أجرم جرما صغيرا أو كبيرا، فإن الخبر يظهر في الصفحات الأولى لكبريات الصحف، وبالخط العريض، وبالتكرار المفيد حتى تصبح القضية فضيحة وطنية ودولية.. لدرجة أضحى سكان القرى النائية للموزمبيق يعرفون من هو أستاذ تارودانت، وأستاذ زاوية الشيخ، وأستاذ صفرو، وأستاذ العادة المعلومة بالدار البيضاء... أما إذا انخرط غير الأستاذ في إفطار رمضان، أو اللواط، أو إجلاس الناس على القناني، أو ممارسة زنا المحارم، أو اختلاس الملايير، أو دفع الرواتب الخيالية لأولاد "بابا وماما" من أموال الشعب، أو إنتاج برامج تافهة ب 70 مليون للحلقة الواحدة، أو بناء مشاريع ضخمة تنهار شهورا عديدة بعد إنهاء التشييد، أو طلب رشاوي "بالعلالي" من أجل استخراج أوراق تافهة أو قضاء حوائج بئيسة هي من صميم حقوق هذا المواطن التعيس، أو أشياء أخرى قد لا يتقبلها عقل من لم يرها بأم عينيه، فإن الأمر لا يستحق ولو التفاتة واحدة، فقط لأن مرتكبيها ليسوا أساتذة...

ألا يدل كل ما سبق على حقيقة أن الأساتذة فعلا أولاد الحرام، رغم أنهم مساكن؟؟ لهذا التناقض الصارخ قصة حدثت في مراكش الحمراء إبان التسعينيات..

فيحكى أن مجموعة من الطلبة كانوا يكترون غرفة من كهل متقاعد في مدينة البهجة، وكان هذا الرجل يتعاطف كثيرا معهم لما عرف عن الطلبة، في الأيام الخوالي، من المعاناة مع الدراسة والبحث والنضال والمواجهات مع الحرس الجامعي والبطالة التي تنتظرهم.. لذلك كان دائما ينعتهم في حواراته بأنهم "مساكن".. خلال شهر يونيو، حيث الدورة الثانية والامتحانات الشفوية واقتراب موعد العطلة، تماطل الطلبة في دفع واجب الكراء، وكانوا كل مرة يتذرعون بذريعة جديدة مقنعة بالنسبة لهذا الرجل المتعاطف.. وذات صباح، استيقظ ليجد الغرفة خالية تماما، والمفاتيح معلقة بالباب يحركها نسيم الصباح ذهابا وإيابا.. فعلم أنهم قد خانوا الثقة، وأفسدوا عليه تعاطفه معهم، وغادروا البيت في ظلمة الليل.. خرج قاصدا صاحب الدكان المجاور وقال له: "الطلبة مساكن... أولاد الحرام.."
J’