رواية (الملهمات)  والصراع الخفي بين المغربيات والخليجيات

الجزء
الثاني
ذ. الكبير الداديسي
بعد تتبع المضامين والقضايا التي عالجتها رواية الملهمات للروائية المغربية فاتحة مورشيد  ومناقشة قضاياها، نواصل في هذا الجزء الثاني كما وعدنا قراءنا بمعالجة قضية تبدو ثانوية في الرواية، لكن ثانويتها لا تعني عدم وجودها، من حيث قصدت الكاتبة أم لم تقصد يتعلق الأمر بصراع خفي بين المرأة المغربية والمرأة الخليجية.
 فإذا كانت المرأة المغربية كثيرا ما تعرضت لانتقادات من طرف الخليجيات ووصلت الاتهامات حدود التجريح والقذف في الشرف والعرض، فهل يمكن اعتبار رواية الملهمات رد أدبي على تلك الاتهامات؟ إذ من حق القارئ طرح السؤال التالي :لماذا اختارت كاتبة مغربية أن تقتل قلمي إدريس على يد امرأة سعودية مطلقة بأربعة أبناء وهو الذي عاشر نساء من عدة جنسيات كلهن ألهمنه  عدا رجاء؟؟
ولعل ما يشرعن هذا السؤال هو تلك الطريقة التي قدمت بها الروائية المرأة السعودية  فجعلتها غير ملهمة ولا ذات مواهب بل إنها المرأة الوحيدة المطلقة في الرواية، كما ربطت الرواية طلاقها بمسائل جنسية، وفي ذلك رسائل مشفرة وواضحة إذا ما قورنت رجاء بأمينة المرأة المغربية التي كانت تعلم بخيانات زوجها ومع ذلك حافظت على أسرتها ووحدة بيتها ، بل وقفت إلى جانب زوجها وتسترت على عشيقته الميتة  في الحادثة التي أدخلت الزوج في غيبوبة.
   ولعل من مظاهر هذا الصراع الخفي في الرواية طريقة الوصف وسرد الأحداث، والتجربة التي اختارتها الكاتبة لإدريس في الخليج: فالكاتبة تصف إدريس في الخليج  كأنه  وجد في بلد " حقا الأدب (فيه) لا ثمن له " بمعنى أنه منعدم القيمة)   ففي الخليج حسب الرواية ( كل شيء تشتهيه نفسك ، من أكل وشرب لك بالمجان باستثناء المشروبات الكحولية وفي الوقت نفسه تجد في متناول يدك بالغرفة الباذخة "مني بار" مملوء عن آخره لكنك لا تستطيع أن تطاله يدك لأنك الزبون الخطأ الذي سقط سهوا في أعلى درجات العز)   لذلك شبهت الرواية إدريس في الخليج  أمام توفر كل شيء وحرمانه (كمن وضعوه في الجنة وفقؤوا عينيه)  متسائلا ( أنحتاج النقود في الجنة؟؟)
وتتضح ملامح هذا الصراع الخفي عند تقديم رجاء للقارئ تقول على لسان إدريس ( كعب عالي أحمر ...ساقين مفتولتين، ثم خصرا رقيقا .. صدر نصف عار... ظننتها في البداية لبنانية الجنسية نظرا لأناقتها الكاشفة لكنها كانت سعودية تعيش وفق قوانينها الخاصة خارج بلدها)   وهو كلام لا يحتاج ذكاء كبيرا لكشف هذا الصراع وكأننا بالكاتبة تريد القول إن السعوديات تنقصهن الأناقة والرشاقة ، وأنه لا يخطر ببال أحد سعودية بهذه الأوصاف.
      وفي وصف رجاء بكونها (مطلقة ولها أربعة أطفال يعيشون مع والدهم بجدة)    إشارة إلى تفضيل المرأة الخليجية لحياتها الخاصة على حساب أبنائها وأسرتها وهو عكس ما قدمته الرواية من خلال شخصية أمينة التي استطاعت إنجاح أبنائها والصبر مع وزجها الخائن حفاظا على مستقبل أبنائها الذين يتابعون دراساتهم العليا بالخارج ، في وقت تركت رجاء أبناءها مع أبيهم بجدة ( والحضانة في الأصل للأم) وذهبت وراء مصالحها الخاصة والاستمتاع بما حرمها منه المجتمع السعودي هاربة من (الوسط يحد من حريتها )
وتتجلى الصورة أكثر في تقديم الرواية لكل النساء كملهمات سعى خلفهن إدريس واحتاج لتناميق الكلام للظفر بعلاقة جنسية معهن ، بينما رجاء هي من قدمت إليه في الفندق، وكانت كقناص يتربص بطريدته  تقول الكاتبة (كانت تعي وقع جمالها على الآخرين وتعرف كيف تتعامل مع طريدتها)  
كل ملهمات إدريس كن أصيلات قدمن فنا راقيا وأصيلا، هناء ألهمته كاتبة القصة القصيرة، ياسمين كاتبةُ قصة وكانت السبب في أول مجموعة قصصية يصدرها ، شروق مغنية وألهمته أول رواية وإن جاء تأثيرها متأخرا لكنه اعتبرها ملهمة ودواء ف(الإلهام كالدواء قد يأتي مفعوله متأخرا) ، وثريا زوجة شاعر ومنظمة حفلات ثقافية ، ريجينا فنانة تشكيلية ، جون اليابانبة مغنية سوبرانو ومغنية أوبرا  وحتى زينة  الخادمة  قدمتها الرواية طباخة ماهرة قدمت لإدريس ما لم يحلم به يوما وجعلته يقول فيها (لأول مرة عرفت متعة أن تهتم امرأة بحاسة ذوقي، معها أحسني بدائيا أقرب ما أكون من الطبيعة .. كان مجرد حضورها بالشقة يجعل قلمي ينطلق وتطيعني الكتابة ... كانت تخلق حولي عالما قريبا من رغباتي الحقيقية)  
في مقابل كل ذلك قدمت  الرواية رجاء المرأة السعودية  كامرأة لا تملك شيئا سوى جسدها ، وحتى عندما حاولت إثارة الأستاذ الناجح يقول ( طلبت مني أن أجلس وأستمتع بالنظر إليها، وهي ترقص على إيقاع موسيقى غربية تنزع ثيابها بطريقة فنية كمحترفة "ستريبتيز")  شرقية ترقص على موسيقى غربية مثل محترفة ستريبتيز صورة هجينة لا أصالة فيها ولا ولا دفء عاطفي مادمت المرأة محترفة استعراض ..
ويظهر بعض ذلك الصراع الخفي في وصف الملابس، والنساء في هذا الوصف يدركن المغزى ، فرجاء ( وعندما نزعت ثبانها أو ما يشبه ذلك ظهر وشم في أسفل البطن) الرواية وصفت اللباس - الذي يفترض فيه أن يكون مثيرا-  بنوع من السخرية  (ثبان أو ما يشبه ذلك) وكأن الكاتبة تعمدت عدم التلميح لأية أشارة أو إثارة جنسية..
وفي الوقت الذي تعاملت كل نساء الرواية مع اللقطات الحميمية بعفوية وعشن اللحظة مفتخرات بأنوثتهن، كانت المرأة الخليجية تكثر من الحديث عن أعضائها التناسلية دون سؤال بل ظلت تعتبر فرجها سبب كل تعاستها تقول الكاتبة في أحد المقاطع (منطقة من جسدها كانت سبب كل مصائبها)....
إن رجاء لم تكن مثيرة للإلهام يقول فيها إدريس (لأول ومرة أمكث في أحضان امرأة .. ولا أحس بأدنى رغبة في الكتابة)   بل ورغم تعدد علاقاته الجنسية فلأول  مرة يصف السارد فعل الجنس –عندما عاشر رجاء- ب(لذة الضياع) .. رجاء التي انقطع معها رجاء الكاتب في الكتابة والإبداع هي  من استدرجته للجنس وهي حائض فاختارت الكاتبة على لسانها أحسن الأوصاف لوصف دم الحيض ( أصبحت الإفرازات رحيقا، ودم الحيض نبيذا أحمر يسيل من جداولي مرة في الشهر ليذكرني بأنوثتي التي اخترت أن أكونها)  انظر كيف اختارت الكاتبة ( النبيذ والرحيق) وتجاهلت كل المؤشرات الأنثوية في جسد المرأة ولم تجد إلا دم الحيض ليذكرها بأنوثتها وكأنها تتغيى توريط رجاء بل أكثر من ذلك جعلتها تصرح أن ( أن كل حيض يحررني من أمومة استعبدتني)  
يبدو إذن من خلال رواية الملهمات أنها تتضمن صراعا خفيا ورسائل مشفرة تارة وأخرى واضحة من كاتبة مغربية إلى المرأة الخليجية، بإبراز  رجاء مختلفة عن كل نساء العالم من المغرب أوربا وآسيا في هيأتها ، وضعها الاجتماعي والأسري، في علاقتها بالرجل، وكونها سببا في قتل الإبداع ، وتعطيل الفن وقطع النسل فبعدما كان إدريس فحلا فارسا جعلته رجاء بدون أمل   في الكتابة، ولا رجاء له في النسل و في الحياة   .