تقديم:
يعتبر مفهوم الواجب قطب رحى الفلسفة الأخلاقية ، إذ يشكل إحدى المقولات الأساسية التي انبنى عليها التفكير الفلسفي في الشق الأخلاقي إلى جانب قيم أخرى كالسعادة و الحرية... والحديث عن الواجب باعتباره أحد هذه القيم يدفعنا للتساؤل:ما هو الواجب ؟وما هو الأساس الذي يقوم عليه؟هل يقوم على الالتزام الداخلي المؤسس على الوازع الأخلاقي؟أم أنه يقوم على سلطة الإكراه والإلزام الخارجي بغض النظر عن مصدره وطبيعته؟وإذا كان الواجب يقوم على الالتزام الداخلي ألا يقتضي ذلك ضرورة وجود وعي أخلاقي من شأنه أن يشكل الأساس الذي يقوم عليه الواجب ـ إلى جانب أسس أخرى كالقوانين الوضعية؟وعندما نتحدث عن الواجب ،ألا يحق لنا أيضا أن نتساءل :هل الواجب هو واجب تجاه الذات أم تجاه الآخرين؟
المحور الأول: الواجب و الإكراه
الحديث عن مفهوم الواجب يجرنا للتساؤل عما إذا كان إلزاما أم التزاما ؟بمعنى آخر هل ما نقدمه من واجب هو صادر عن رضى وطيب خاطر؟أم لأننا أرغمنا عليه؟
ارتبط مدلول الواجب لدى "كانط" بالعقل . فالواجب ليس استجابة لميل أو غريزة إنه استجابة لنداء العقل ، وتحديدا العقل العملي الأخلاقي،الذي يملي أوامره القطعية المطلقة،والتي تشكل أساس الأخلاق .إن غاية الأخلاق عند "كانط" هي الواجب من حيث هو واجب ، فالواجب غاية في ذاته بغض النظر عن أي معطى خارجي . إن أخلاق التجربة ترتبط بما هو كائن ،أي بالواقع ،وبالتالي فهي متغيرة ونسبية،أما أخلاق العقل فترتبط بما يجب أن يكون ، لذا فهي تكتسب صبغة الإطلاقية. إن الفلسفة الأخلاقية الكانطية اعتبرت العقل منبع الأخلاق، وبالتالي قانونه قانون كلي كوني ، يصدر أوامره المطلقه على جميع الناس ودون استثناء.إن الواجب أمر وأمر وحسب .
فالواجب أمر أخلاقي عقلي قطعي وخالص .
اهتجس كانط بهاجس الكونية وهو يبني فلسفته النقدية بشكل عام. لذلك وضع قوانين تتسع رقعتها لتشمل الإنسان كمفهوم، أي الإنسان في صيغته المطلقة، مركزا على العقل والإرادة لطابعهما الكوني والمشترك. فالعقل العملي إلى جانب الإرادة هما المشرعين لمفهوم الواجب، الذي هو إكراه، من حيث هو فعل خاضع للعقل، وللحرية، لأن مصدره الإرادة. في حين يرى هيجل أن الأطروحة الكانطية مجرد نزعة صورية تفتقر إلى التجلي والتجسد في الواقع. فالواجب مع هيجل ذو طابع مؤسساتي وغايته هي إقامة الدولة القوية التي يبتدئ بناء صرحها من الفرد الذي ينصهر في الكل، بلغة صاحب الفينومنولوجيا " يجب على الفرد الذي يؤدي واجبه أن يحقق مصلحته الشخصية أو إشباعه وأن يتحول الشأن العام إلى شأن خاص بفعل وضعيته داخل الدولة. فان دل هذا فإنما يدل على أن المصلحة الخاصة تنصهر ضمن المصلحة العامة بحيث يضمن الفرد حمايتها. "فالفرد ،يقول هيجل، الخاضع للواجبات سيجد في تحقيقها حمايته لشخصه ولملكيته باعتباره مواطنا، وتقديرا لمنفعته وإشباعا لماهيته الجوهرية، واعتزازا بكونه عضوا في هذا الكل؛ وبذلك يغدو الواجب مرتبطا بالدولة لا بالذات في وجودها الخالص.
و لقد عالج "دوركايم" الواجب من منظور اجتماعي ، حيث ربط الواجب بسلطة المجتمع وإكراهاته إن الواجب يستمد سلطته من إكراهات القوانين والمؤسسات المجتمعية . غير أن القيام بالواجب ليس تنفيذاً للواجب من حيث هو واجب بل أيضاً تحقيقاً لرغبة الفرد هكذا يكشف "دوركايم "عن مكونيين للواجب وهما : الإلزام والرغبة . الإلزام والذي يستمد سلطته من الضمير الجمعي المتعال علينا كأفراد ، والرغبة التي هي ميل ونزوع للقيام بالواجب .فالواجب إلزام مرغوب فيه .
الواجب الأخلاقي استجابة لنداء المجتمع وتحقيق لرغبة الفرد ، فالفعل الأخلاقي إكراه مرغوب فيه
تركيب واستنتاج:
إن إحتواء مفهوم الواجب على جملة من التقابلات : المطلق /النسبي،الذاتي/الموضوعي...دليل على ثرائه وانفتاحه على الواقع ومتغيراته.إن وجود طابعين مختلفين للواجب لا يعني انفصالهما ،بقدر ما يؤكد على انفتاح النسبي على المطلق بغية تأسيس واجبات كونية وقيم انسانية مشتركة
المحور الثاني: الوعي الأخلاقي
يعتبر مفهوم الوعي الأخلاقي مفهوما مركزيا في الفلسفات الأخلاقية .فما هو الأساس الذي يقوم عليه هذا الوعي؟
يرى روسو أن الوعي الأخلاقي إحساس داخلي موطنه وجداننا فنحن نحسه قبل معرفته ،وهو الذي يساعدنا على التمييز بين الخير والشر ،والحسن والقبيح،وهي إحساسات طبيعية وفطرية يسعى الإنسان من خلالها إلى تفادي ما يلحق الأذى به وبالآخرين،ويميل إلى ما يعود عليه وعلى الآخرين بالنفع.الأمر الذي يقوي لديه الوعي الأخلاقي فيجعله متميز عن باقي الكائنات الحيوانية الأخرى.
وفي نفس السياق يؤكد" فرويد"على أن الوعي الأخلاقي ليس كيانا قبليا لدى الإنسان،بل هو بنية ترتبط بجهازه النفسي ،الذي يتشكل عبر مراحل ووفق شروط.فالضمير الأخلاقي ليس معطى جاهزا وقبليا ،بل ينشا بنشوء الأنا الأعلى،هذا الأخير الذي يتشكل انطلاقا من استبطان الفرد لقيم المجتمع الذي ينتمي اليه.فالضمير الأخلاقي ليس مصدره العقل الخالص ،بل هو نتاج لإنعكاس قيم الجماعة ومعاييرها على البنية النفسية للفرد .
الوعي الأخلاقي قوة سيكولوجية تؤثر في حياتنا الفكرية وفي سلوكنا العملي.
أما هاينز كينتشتاينر فيعرض تاريخ الوعي الأخلاقي مبينا التطورات التي عرفها هذا المفهوم خلال مراحل زمنية مختلفة ،رابطا إياه بتحولات المجتمع ونوعية التربية الأخلاقية السائدة فيه .إن الوعي الأخلاقي ينشأ من صميم الواقع الذي ينوجد فيه ،فهو ليس كيانا مطلقا وثابتا بقدر ما هو ظاهرة كباقي الظواهر يلحقها التحول والتغيير . ولتعزيز أطروحته اعتمد الكاتب تقنية الإستشهاد التاريخي راصدا تطورات مفهوم الوعي الأخلاقي وفق تسلسل كرونولوجي ، مبتدءا من القرن الخامس عشر إلى الآن. مبرزاً أهم المحطات التي عرفها الوعي الأخلاقي ، انطلاقاً من صدوره عن سلطة عليا دينية أو أخلاقية إلى انبثاقه من الإحساس بالمسؤولية الفردية اتجاه الغير والمجتمع وأخيراً ربطه بالبنية النفسية للفرد في تفاعلها مع المجتمع .إن هذه المحطات وغيرها تبين لنا أن الضمير الأخلاقي ليس دائرة مغلقة على نفسها بل تنفتح على الخارج بكل تغيراته ، والتي لايسلم هو نفسه منها .
الوعي الأخلاقي نسبي متغير ونام...
وقد ذهب نيتشه إلى رفض كل التزام أخلاقي ، سواء من الناحية المبدئية أو من ناحية ادعائنا القدرة على تعميمه على جميع الذوات.إن اعتبار الالتزام الأخلاقي أساسيا للفعل الأخلاقي ،هو في نظره هو جهل بالذات وسوء فهم لها، وخصوصا عندما تدعي تلك الذات إمكانية تعميمه على كل الذوات الأخرى. وكبديل لهذا الالتزام، يشدد نيتشه على الأنانية الذاتية، بما تعنيه من هناء وخنوع وتواضع، باعتبارها أساسا للسلوك الإنساني عوض ذلك الالتزام الأخلاقي الزائف.
المحور الثالث: الواجب و المجتمع
ماهي الصلة التي يمكن إقامتها بين الواجب والمجتمع ؟ وكيف تتحدد واجبات الفرد تجاه المجتمع والآخرين؟
يرى دوركهايم بأن المجتمع يشكل سلطة معنوية تتحكم في وجدان الأفراد، و يكون نظرتهم لمختلف أنماط السلوك داخله، و من ثمة فالمجتمع يمارس نوعا من القهر و الجبر على الأفراد إذ هو الذي يرسم لهم معالم الامتثال للواجب الأخلاقي و النظم الأخلاقية عموما، و لما كانت الحال كذلك لأن الأفراد يُسلب منهم الوعي بالفعل الأخلاقي، لأنه لم يكن نابعا من إرادة حرة و واعية و إنما عن ضمير و وعي جمعيين هما المتحكمان في سلوكيات الأفراد. و بالتالي فالمجتمع سلطة إلزامية "و التي يجب أن نخضع لها لأنها تحكمنا و تربطنا بغايات تتجاوزنا.
و من ثمة فالمجتمع يتعالى على الإرادات الفردية، و يفرض السلوكيات التي يجب أن يكون بما فيها السلوكيات الأخلاقية لأن المجتمع "قوة أخلاقية كبيرة. فيحقق الأفراد غاية المجتمع لا غاية ذواتهم و الإنصات لصوته الآمر لأن "تلك المشاعر التي تملي علينا سلوكنا بلهجة آمرة صارمة و ضميرنا الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع و لا يعبر إلا عنه.
أما ماكس فيبر فيميز بين نوعين من الأخلاق : أخلاق الاعتقاد وأخلاق الاقتناع ، فإذا كانت الأولى تجد أساسها في الدين أو الإيديولوجيا ، فإن الثانية توجه وفق أخلاق المسؤولية وبالتالي فهي ترتبط بالمحاسبة القانونية والمسؤولية الأخلاقية ، على خلاف الأولي التي تلقي بالمسؤولية على محددات خارجية كمشيئة الله أو حماقة البشر ... يرى" فيبر" أن أخلاق الاعتقاد لاعقلية ذات طابع مثالي ، لذا يجب تأسيس الأخلاق على المسؤولية والمحاسبة تماشياً مع روح العصر وبعيداً عن أي أخلاق تأملية عقائدية ، والتي يكون همها الوحيد هو إبقاء شعلة الاقتناع دائمة التوهج .بخلاف أخلاق الاقتناع التي تؤسس ذاتها على عقلانية حرة ومسؤولة عن أفعاله
لكن جون راولز صاحب نظرية العدالة في الفكر السياسي المعاصر،فيعتبر أن الواجب الأخلاقي ليس واجبا من اجل الواجب فقط ،بل هو واجب يتجاوز الفرد والمجتمع لينفتح على الأجيال اللاحقة من اجل تحقيق عدالة منصفة ،باعتبارها مطلبا أخلاقيا.فتحقيق العدالة لن يتم إلا بالتضامن مع الأجيال اللاحقة والتوزيع العادل للخيرات . إن الواجب الأخلاقي عند "راولز" ذو بعد إنساني وكوني يتجاوز اللحظة في بعدها الفردي والمجتمعي ليتطلع إلى المستقبل متجاوزاً بذلك نسبية القيم الاجتماعية وساعياً نحو ترسيخ قيم إنسانية وكونية .
إن التضامن مع الأجيال اللاحقة واجب أ خلاقي ، فالمجتمع المعاصر مدعو بكل فاعليه ،أفراد شركاء ومؤسسات إلى الإلتزام بهذا الواجب من أجل تحقيق عدالة منصفة. و كثيرة هي المناحي التي ينبثق منها هذا الواجب الأخلاقي بما هو تضامن بين الأجيال ، و هذا التضامن هو خدمة للمجتمع عموما و تقسيم الثروات بشكل عادل.
تركيب واستنتاج :
يرتبط الواجب بما هو إنساني و كوني بغض النظر عن اختلاف المجتمعات من حيث رسا ميلها المادية والرمزية .
مــقـدمــــة:
مما لامناص منه أن مفهوم الحرية من المفاهيم الفلسفية الأكثر جمالية ووجدانية، فلهذا السبب اتخذت دائما شعارا للحركات التحررية والثورية ومختلف المنظمات الحقوقية في العالم، باعتبارها قيمة إنسانية سامية تنطوي على مسوغات أخلاقية واجتماعية وأخرى وجدانية وجمالية. إلا أنها تعد من المفاهيم الفلسفية الأكثر جدلا واستشكالا. فقد طُرحت الحرية بالقياس دوما إلى محددات خارجية؛حيث كانت مسألة الحرية تطرح في الفكر القديم قياسا إلى القدرة والمشيئة الإلهية واليوم تُطرح قياسا إلى العلم الحديث بشقيه ،سواء علوم الطبيعة أم الإنسان. فماذا تعني الحرية:هل الحرية أن نفعل كل ما نرغب فيه؟أم أنها محدودة بحدود حرية الآخرين؟وبناء على ذلك أين يمكننا أن نموقع الذات الإنسانية؟ هل هي ذات تمتلك حرية الاختيار وبالتالي القدرة على تحديد المصير؟ أم أنها ذات لها امتدادات طبيعية خاضعة لحتميات متعددة؟ ثم هل الحرية انفلات من رقابة القانون وأحكامه؟ أم أنها رهينته؟
المحور الاول : الحرية والحتمية
إذا كانت الحرية تتحدد بقدرة الفرد على الفعل والاختيار،فهل ستكون هذه الحرية مطلقة أم نسبية؟وهل ثمة حتميات وضرورات تحد من تحقيق الإرادة الحرة لدى الإنسان؟
يرى سبينوزا، أن الحرية، أو بالأحرى الشعور بالحرية مجرد خطأ ناشئ مما في غير المطابقة من نقص وغموض؛ فالناس يعتقدون أنهم أحرار لأنهم يجهلون العلل التي تدفعهم إلى أفعالهم، كما يظن الطفل الخائف انه حر في أن يهرب، ويظن السكران انه يصدر عن حرية تامة، فإذا ما تاب إلى رشده عرف خطأه. مضيفا أنه لو كان الحجر يفكر، لاعتقد بدوره أنه إنما يسقط إلى الأرض بإرادة حرة. وبذلك تكون الحرية الإنسانية خاضعة لمنطق الأسباب والمسببات الذي ليس سوى منطق الحتمية.
أما كانط فينطلق في معرض بحثه لمفهوم الحرية،من فكرة تبدو له من المسلمات والبديهيات، مفادها أن الحرية خاصية الموجودات العاقلة بالإجمال؛لأن هذه الموجودات لا تعمل إلا مع فكرة الحرية. غير أن أي محاولة من العقل لتفسير إمكان الحرية تبوء بالفشل،على اعتبار أنها معارضة لطبيعة العقل من حيث أن علمنا محصور في نطاق العالم المحسوس وأن الشعور الباطن لا يدرك سوى ظواهر معينة بسوابقها،وهذه المحاولة معارضة لطبيعة الحرية نفسها من حيث أن تفسيرها يعني ردها إلى شروط وهي علية غير مشروطة. كما ينص كانط على التعامل مع الإنسان باعتباره غاية،لا باعتباره وسيلة،ذلك لأن ما يعتبر غاية في ذاته،هو كل ما يستمد قيمته من ذاته،ويستمتع بالتالي بالاستقلال الذاتي الذي يعني استقلال الإرادة. يقتضي هذا المبدأ بان يختار كل فرد بحرية الأهداف والغايات التي يريد تحقيقها بعيدا عن قانون التسلسل العلي الذي يتحكم في الظواهر الطبيعية.
في حين ينتقد كارل بوبر الحتمية التي جاءت بها العلوم الإنسانية ، مشبهاً إياها بالقدرية القبلية و منادياً بنزعة لا حتمية ،فإذا كانت العلوم الإنسانية تصر على خضوع الإنسان لسلسة من الإكراهات والمحددات،فإن بوبر يدافع عن النزعة اللاحتمية ؛والتي لا تعني ادعاء امتلاك الإنسان لحرية مطلقة ،فالحرية الإنسانية مرهونة بمحددات أساسية تتجلى في العلم الفيزيائي الطبيعي، العلم العاطفي الوجداني والعلم الفكري. غير أن الإنسان وإن كان خاضعا لهذه المحددات، فإنه في المقابل يختار،بمحض إرادته، من بين إمكانيات عديدة الإمكانية التي تلائمه.
يدافع الكاتب عن النزعة اللاحتمية ،والتي ترفض القول بالحتمية المطلقة، وتقر بوجود إكراه ملازم للحرية. وهذا يذكرنا بقول" القديس أوغسطين " : "يمكن أن نكون عبيدا في العالم ومع ذلك نكون أحرارا."
غير أن سارتر يعتبر أن الحرية لا تتحدد فقط في الاختيار،وإنما في انجاز في انجاز الفرد لمشروعه الوجودي ،مادام أنه ذاتا مستقاة تفعل وتتفاعل،أما و يعرض عبد الله العروي أسباب انشغال الفكر الراهن ، وبشكل مكثف ،بمسألة الحرية .ويعزو أسباب هذا الانشغال إلى المخاوف التي ولدها التقدم العلمي ، الذي ما فتئ يؤكد على توسيعه لدائرة الحرية الفردية ، فإذا به يقلصها إلى أبعد حد. وأمسى يهدد بتحوله من أداة لفهم الإنسان إلى وسيلة للتحكم والسيطرة عليه .ولتعزيز موقفه وظف العروي أسلوب التقابل، حيث قابل بين النقاش القروسطوي حول الحرية ، والذي انشغل بإشكالية الجبر والاختيار ومحاولة التوفيق بينهما، والنقاش الحالي الذي يسعى بدوره إلى التوفيق بين الحتمية العلمية وحرية الوجدان .
إن القول بالحتمية يقلص من دائرة الحرية ، غير أن الوعي بالحتمية يوسع من آفاقها وإمكانياتها .
الإحساسات والقرارات التي يتخذها ،فهي ليست أسبابا آلية ومستقلة عن ذواتنا،ولا يمكن اعتبارها أشياء وإنما نابعة من مسؤوليتنا وقدرتنا وإمكانيتنا على الفعل.
المحور الثاني : حرية الإرادة
إذا كانت الحرية نابعة من قدرة الفرد على الاختيار والفعل فان الهدف الأساسي لها يتجلى أساسا في تحصيل المعرفة وبلوغ الحقيقة. يميز الفارابي بين الإرادة والاختيار:فالإرادة هي استعداد يتوفر على نزوع نحو الإحساس والتخيل،في الوقت ذاته يتميز الاختيار بالتريث والتعقل،ومجرد ما يحصل الإنسان المعقولات بتمييزه بين الخير والشر،فانه يدرك السعادة الفعلية وبالتالي يبلغ الكمال.
ولا يختلف اثنان في اعتبار سارتر فيلسوف الحرية بامتياز، وكيف لا وهو الذي نصب نفسه عدوا لذودا للجبريين. لقد بذل هذا الفيلسوف قصارى جهده للهبوط بالإنسان إلى المستوى البيولوجي المحض. فالحرية هي نسيج الوجود الإنساني،كما أنها الشرط الأول للعقل "إن الإنسان حر،قدر الإنسان أن يكون حرا، محكوم على الإنسان لأنه لم يخلق نفسه وهو مع ذلك حر لأنه متى ألقي به في العالم، فإنه يكون مسؤولا عن كل ما يفعله". هكذا يتحكم الإنسان –حسب سارتر- في ذاته وهويته وحياته، في ضوء ما يختاره لنفسه بإرادته ووفقا لإمكاناته. يتناول ،إذن،سارتر مفهوم الإرادة باعتباره قوة إعدام، أي القدرة على الهدم مع إعادة البناء، إن الحرية خلق وبناء لذلك تفترض الإرادة حرية أصلية وجوهرية لدى الإنسان، معارضاً بذلك موقف العلوم الإنسانية التي حولت الأفراد إلى كائنات عديمة الحرية والفعل وجردتهم من مقوماتهم الإنسانية . إن الحرية هي ماهية الإنسان وهذا هو فحوى الفلسفة الوجودية.
الإرادة تشترط الحرية ، والحرية هي الماهية الفعلية للإنسان.
أما ديكارت فيعتبر الإرادة أكمل وأعظم ما يمتلك الإنسان لأنها تمنحه القدرة على فعل الشيء أو الامتناع عن فعله،فهي التي تخرجه من وضعية اللامبالاة وتدفعه إلى الانخراط في مجال الفعل والمعرفة والاختيار الحر. إن الإنسان كائن حر وحريته حسب ديكارت لا تخضع لأي إكراه خارجي، فبإرادته الحرة يختار هذا الفعل أو يحجم عنه . فحرية الإنسان ناتجة عن إرادته المطلقة . غير أن ديكارت يميز بين الحرية الحقيقية، والتي تكمن في القدرة على الاختيار بين أمرين ، والحرية المزيفة التي تنبع من اللامبالاة وتتساوى عندها المتناقضات .
الإنسان كائن حر ، وحريته تقوم على الإرادة والقدرة على الاختيار وليس اللامبالاة .
أما نيتشه، فقد رفض الأحكام الأخلاقية النابعة من التعاليم المسيحية، معتبرا أنها سيئة وأنها أكدت، تأكيدا زائفا على الحب والشفقة والتعاطف، وأطاحت ،في المقابل، بالمثل والقيم اليونانية القديمة التي اعتبرها أكثر صدقا وأكثر تناسبا مع الإنسان الأرقىsuperman"". فهذه الأخلاق – بالمعنى الأول – مفسدة تماما للإنسان الحديث الذي يجب أن يكون "روحا حرة" ويثبت وجوده ويعتمد على نفسه ويستجيب لإرادته. فقد اعتبر بوجه عام أن الحقيقة القصوى للعالم هي الإرادة، ومثله الأعلى الأخلاقي والاجتماعي هو " الرجل الأوربي" الجيد، الموهوب بروح حرة، والذي يتحرى الحقيقة بلا ريب، ويكشف عن الخرافات والترهات.
المحور الثالث: الحرية والقانون
إذا اعتبرنا أن الحرية مقترنة بالإرادة الحرة وبقدرة الفرد على التغلب على الاكراهات والحتميات ،فكيف يمكن الحد من الحرية المطلقة؟وما دور القانون في توفير الحرية وترشيد استعمالها؟
لما كان الإنسان قد ولد وله الحق الكامل في الحرية والتمتع بلا قيود بجميع حقوق ومزايا قانون الطبيعة ، في المساواة مع الآخرين ، فإن له بالطبيعة الحق، ليس في المحافظة على حريته فحسب، بل أيضا في أن يقاضي الآخرين، إن هم قاموا بخرق للقانون ومعاقبتهم بما يعتقد أن جريمتهم تستحقه من عقاب. من هذا المنطلق وُجد المجتمع السياسي، حيث تنازل كل فرد عن سلطته الطبيعية وسلمها إلى المجتمع في جميع الحالات التي لا ينكر عليه فيها حق الالتجاء إلى القانون الذي يضعه المجتمع لحمايته.
لا يعول توماس هوبز كثيرا على القانون، فهو يعتقد أن كينونة الحرية في الإنسان هي الدافع الأساسي لإعمال حريته وليس القانون، مضيفا أنه إذا لم يكن الإنسان حرا بحق وحقيقة، فليس هناك موضع للإدعاء بأن هذا الإنسان يمكنه أن يحظى بالحرية فقط عندما يكون تحت نظام قانوني معين... إذ تبقى الحرية عند هوبز نصا يمتلك معنى واسعا، ولكنه مشروط بعدم وجود موانع لإحراز ما يرغب فيه الإنسان، فالإرادة أو الرغبة لوحدها لا تكفي لإطلاق معنى الحرية. وهوبز كغيره من رواد الفكر السياسي الغربي، يؤمن بأن حرية الإنسان تنتهي عند حرية الآخرين، فقد رفض الحرية الزائدة غير المقيدة، إذ أكد بأن الحرية المطلقة ليست الحرية الحقيقية لأنها خارجة عن السيطرة، بالأحرى سيكون الإنسان مستعبدا من خلال سيادة حالة من الخوف المطرد المستمر. وهكذا ستتعرض المصالح الشخصية الخاصة وحتى الحياة نفسها للرعب والذعر، من قبل الآخرين أثناء إعمالهم لحرياتهم. فالحرية المطلقة تقود إلى فقدان مطلق للحرية الحقيقية.
وفي نفس الاتجاه يذهب مونتسكيو حيث يرى أن الحرية تنطوي على العديد من المعاني والدلالات ،وتقترن بأشكال مختلفة من الممارسات السياسية .فالحرية في نظره ليست هي الإرادة المطلقة ، وإنما الحق في فعل يخوله القانون دون المساس بحرية الآخرين.
و يقدم بنيامين كونسطان أطروحته التي تتجاوز المعنى القديم والضيق للحرية مبيناً خصائص الحرية المحدثة التي تراهن على حرية الفرد في الفكر والكلام والحركة اعتماداً على قوانين مشروعة تحمي حقوقه الإنسانية الجسمية منها والفكرية ....
إن الحرية بمعناها الحديث أكثر عمقاً واتساعاً لأنها امتثال للقوانين وتحقيق للحريات
غير أن حنا أردنت Arendtربطت الحرية بالحياة اليومية وبالمجال السياسي العمومي ذلك أن اعتبار الحرية حقا يشترك فيه جميع الناس، يفترض توفر نظام سياسي وقوانين ينظمان هذه الحرية، ويحددان مجال تعايش الحريات. أما الحديث عن حرية داخلية(ذاتية)، فهو حديث ملتبس وغير واضح. إن الحرية، حسب أرندت، مجالها الحقيقي والوحيد هو المجال السياسي، لما يوفره من إمكانات الفعل والكلام، والحرية بطبعها لا تمارس بشكل فعلي وملموس، إلا عندما يحتك الفرد بالآخرين، إن على مستوى التنقل أو التعبير أو غيرها، فتلك هي إذن الحرية الحقيقية والفعلية في اعتقادها.
خاتمة:
يتضح لنا جليا من خلال ما سبق أن مفهوم الحرية مفهوم ملتبس، فكلما اعتقدنا أننا أحطنا بها، انفلت منا ، فقد تعددت النظريات من فلسفة لأخرى بل من فيلسوف لآخر فهناك من ميزها عن الإرادة (الفارابي)، وهناك من رأى أنها تحوي زخما كبيرا من الدلالات والمعاني (مونتيسكيو )، وهناك كذلك من ربطها بالحياة اليومية ولم يعزلها عن حياتنا السياسية كما ذهبت إليه (أرندت).