الدم من القداسة إلى النجاسة
ذ. الكبير الداديسي
شكل الدم في الثقافة الإنسانية منذ القديم رمزا للحياة ، وكل من أصيب بنزف كبير كان مهددا بفقد حياته، ونظرا لأهمية الدم في حياة الإنسان اختاره أفضل هدية ، وأغلى ما يمكن أن يقدمه قربانا للآلهة ، و أهم ما يمكن فداء عزيز به ، فكان سكب الدماء في المعابد وفوق الأراضي الزراعية دليلا على التقرب للآلهة ووسيلة لطلب تحقيق الأماني قبل أن يتطور الإنسان ويستعيض عن تقديم دم البشر قربانا إلى تقديم القرابين الحيوانية ... ومع ذلك ظل فقدان الدم في الحروب والجهاد استشهادا ودم الشهيد مقدس يطهر صاحبه من كل الآثام والخطايا ، فلم يكن الشهيد في حاجة لغسل أو كفن و كل ما يتعلق بطقوس طهارة الموتى ما دام دمه المسفوك قد طهره ،فيدفن بثيابه ملطخا بدمائه، ونفس الفكرة تكررت في المسيحية فكان دم المسيح مطهرا للبشرية ، ومخلصا للبشرية بتقديم دمه ، ويظهر من كل الديانات السماوية أن الدم ارتبط بالقداسة ، وانعكس ذلك في الثقافة السياسية والاجتماعية ، وأكيد أننا نتذكر في لحظات كثيرة كيف ارتفعت الحناجر في عدد من الدول العربية في السنوات الأخير مرددة شعارات( مثل بالدم نفديك يا ....) حسب السياق الذي يرفع فيه الشعار
فإذا كان الدم في معظمه مقدسا و مرتبطا بالمعاني السابقة ، فسرعان ما تتغير الصورة ، وتنقلب الرؤية 180 درجة عندما يتعلق الأمر بدم الحيض ، فيصبح الدم رمزا للنجاسة والقذارة ، وتتغير معها صورة المرأة من رمز للخصب وواهب الحياة ، إلى كائن مدنس يجب الابتعاد عنه وتجنبه فأكدت اليهودية أن المرأة ( في أيام طمت علتها تكون نجسة) وأن كل من تلمسه يصير نجسا ، وذهبت الهندوسية إلى منع المرأة الحائض من الطبخ والاقتراب من الأطفال والزوج .. كما ذهبت بعض القيادات المسيحية إلى منع المرأة الحائض من دخول الكنيسة ، وهو ما تردد عند الزراديشتية التي كانت تمنع المرأة الحائض من دخول معبد النار ....
ونجد نفس الطرح تقريبا في الإسلام ، فمنع الإسلام المرأة الحائض من ممارسة الشعائر الدينية ونص ببطلان صلاتها وصومها ومنعها من دخول المساجد كما منع الرجل من معاشرتها كما في قوله تعالى : (ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتى يطهرن فإذا تطهَّرن فأتوهنّ من حيث أمركم الله) دون أن يمنع الجريح من ذلك ، فكان جرحى المسلمين يعالجون في المساجد ، ويؤدون واجباتهم الدينية من صوم وصلاة ... فلم صار الدم عندما ارتبط بالجهاز التناسلي نجسا وظل كلما كان مرتبطا بباقي الأعضاء مقدسا ؟؟
حاول الكثير من المفسرين والمحللين البحث عن أسباب اعتبار دم الحيض نجاسة ، وربطوه بالتلوث ونمو البكتريا في الجهاز التناسلي للمرأة أثناء مرحلة الحيض والخطورة التي قد يسببها الجماع للمرأة والرجل على السواء .... لكن رغم كل ذلك يبقى الحيض ظاهرة خاص بالمرأة دون غيرها من الثدييات فلا نكاد نعرف من الثدييات ة من لها دورة شهرية . ويبقى دم الحيض طبيا دم عادي يخرج نتيجة سقوط بطانة الرحم بسبب نقص هورمون محدد هو البروجسترون بعد عدم حصول الإخصاب وحدوث الحمل، ولو كان يحتوي مكروبات وبكتيريا ضارة لضر الرحم أولا ولضر القنوات التي يمر منها عند نزوله ، والكل يعلم أن رحم المرأة وجهازها التناسلي يظل نقيا معافى بعد الحيض . صحيح أن النفس تعاف الجماع خلال تلك الفترة ، وتقل شهوة الجنس عند المرأة ...
ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا أننا هنا ندعو إلى ممارسة الجنس أثناء فترة الحيض ، وإنما نناقش ما الذي يجعل دما ينزف من جرح مقدسا ، ودم ينزف من فرج امرأة نجاسة مع أنهما دموان معا حتى وإن خرجا من نفس الجسم . إن في اعتبار الحيض نجاسة تكريس لدونية المرأة وجعلها هدفا للشركات التجارية الباحثة عن الربح السريع، من خلال إيهام المرأة أن الفوط الصحية قادرة على زرع الثقة في نفسها ، وتعيد لها ما سلبه منها الحيض كالحركة والخفة والتوازن ويساعدها على أن تعيش حياتها بعيدة عن النجاسة ، مستغلة الضعط الديني والاجتماعي الذي ينفر من دم الحيض النجس ،والذي لا يشبه الدم المقدس لذلك تحرص كل الشركات التجارية على تغير لون دم الحيض فتقدمه أورق اللون عوض اللون الأحمر المرتبط في المخيال الإنسان بالقدسية ، وطبيعي أن تقدمه أزرق ما دام هو المسؤول عما تعانيه المرأة في تلك الفترة من قلق وغضب ... وكيف لا تشعر المرأة بمثل هذا الإحساس وهي ترى أكثر من ربع حياتها كائنا نجسا قذرا في نظر كل من حولها بل وفي نظر أقرب الناس إليها ، وعليها أن تخفي عادتها الشهرية لأنها تثير قرفهم وغيظهم ، لذلك كثيرا ما تتكتم المرأة وترقض الجهر بحيضها ولو أمام أبنائها وعائلتها ، وقد ترفض إعلان فطورها في رمضان أمامهم رغم جوعها وعطشها