العبثية في الرواية العربية (طقوس العبث) لعبد الرحيم بهير نموذجا
الكبير الداديسي
على الرغم من حداثة الرواية في الثقافة الإنسانية فقد استطاعت أن تسلك بنفسها اتجاهات كثيرة ومتنوعة، وفرضت على النقاد البحث عن تمظهرات كل اتجاه فيما يبدعه الروائيون،بتمييز الرواية الواقعية، عن الرومانسية ،عن الخيالية، عن العجائبية، فالتجريبية... قبل أن تشوش عليهم تصنيفاتهم بتحطيم الحدود بين الأنواع والأجناس الأدبية وتحويل الرواية إلى جماع وملتقى فنون متعددة... وإذا كانت تلك الاتجاهات، وهذه الطفرة النوعية قد حظيت باهتمام وافر وخلقت تراكما نقديا فإن بعض الاتجاهات الرواية ضلت تجاربها نادرة ، وظل اهتمام النقاد بها ضعيفا ولعل من تلك الاتجاهات اتجاه الرواية العبثية. فقلما وجدنا ناقدا ينبش في ( الرواية العربية العبثية). والتساؤل هل هناك رواية عبثية عربية؟ أليست العبثية هي النوع الروائي الأنسب لهذا واقع عربي لم يكن يوما عبثيا مثلما هو عليه اليوم؟... لذلك سنفتح اليوم هذه النافذة وكلنا أمل أن يتفاعل معها القارئ العربي بالنقد والتوجيه وخلق تراكم نوعي في الكتابة الروائية العربية نقدا وإبداعا....
تكاد الرواية العبثية ترتبط باسم الروائي الفرنسي ألبير كامي وخاصة روايته ( الغريب = L’étranger) ، التي قدم فيها البطل مورسول كشخصية غير مكترثة لا تبالي بالأعراف ليكون مصيرها الحكم بالإعدام ليس لجريمة شنعاء ارتكبتها ولكن نتيجة لامبالاته تجاه وفاة أمه، تجاه الأعراف الدينية، بل ولا مبالاته تجاه موته الذي اعتبرها مخلصه من عبثية الحياة ولا معقوليتها ... وغير ذلك من الأحداث التي جعلت من رواية (الغريب) نموذجا للرواية العبثية ، وجعل من العبثية اتجاها فكريا ليس نقيضا للعقل فحسب بل كاتجاه يستخدم العقل لنفي العقل ، لتجعل العبثية من الإنسان كائنا ضائعا لا معنى لسوكه في الحياة، فاقدا القدرة على رؤية الأشياء بحجمها الطبيعي يعيش صراعا طاحنا بين جموح الرغبة وعقلها بالعقل، وهو ما يجعل كل مجهودات الذات الإنسانية تنتهي بالفشل الحتمي، مادمت تسعى وراء هدف - رسمته الشخصية العبثية لنفسها- غير موجود ، ولأن الطريق لتحقيق الهدف لا قواعد ولا ضوابط تسيِّجه ، وهو ما يجعل سلوكها غير منسجم مع محيطها ولا مع الأفكار التي تربىت عليها، فتكون ميزتها التمرد على القيم التي ترى أنها مصطنعة، ومن تم فلا شيء في هذا الوجود له قيمة، وأن الحياة الحقيقية هي التي لا قيَـم فيها ولا اكتراث فيها بالآخرين ...
ولسنا هنا بصدد البحث في تاريخ العبثية وسياق ظهورها، وخلفياتها وأهدافها ... وإنما التساؤل عن أمكانية وجود رواية عربية عبثية في ظل مجتمع عربي إسلامي يعيش على المسلمات الدينية الجاهزة، وثوابت في الأعراف والقيم المتوارثة، وفي كل خطوة منذ الوالدة إلى الموت عادات وطقوس متجذرة يستحيل تجاهلها، والحياة ليست سوى دار عمل وتزود لحياة أبدية تنتظر المسلم...
من الروايات العربية التي يمكن تصنيفها في هذا الاتجاه العبثي رواية (طقوس العبث) للروائي والسيناريست المغربي عبد الرحيم بهير الصادرة في (220 صفحة), عن مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والتوزيع والنشر سنة 2015بيروت، بعد عدد من الروايات شكلت صرحا روائيا من أركانه : رواية "الفقدان" الصادرة عن دار قرطبة البيضاء 1993 ورواية "المرأة التي" الصادرة عن نفس الدار سنة 1995، ورواية "مجرد حلم" الصادرة عن دار الثقافة مؤسسة للنشر والتوزيع البيضاء 2004 ورواية "صلواتهم" عن دار القرويين الدار البيضاء 2007، قبل أن يتعامل مع مؤسسة الرحاب الحديثة اللبنانية في روايتين هما "زحف الأزقة" 2014 ورواية "طقوس العبث" 2016. ليعود متم سنة 2016 للتعامل مع دار نشر مغربية من خلال روايته الجديدة (جبل موسى) التي سبق أن قاربنا جوانب من القضايا التي عالجتها في دراسة سابقة...
ينضاف إلى عِقْدِ كتابات عبد الرحيم بهير السردية دررٌ من السيناريوهات لأفلام ومسلسلات لقيت نجاحا في المغرب وخارجه، منها سيناريو مسلسل دوايـر الزمـان، 2000، وسيناربو مسلسل أولاد النـاس سنة 1999 ، سيناريو سلسلة بسمة ، و سيناروهات بعض الأفلام السينمائية المطولة كفطومة ، والطيور على أشكالها تقع ، وشهادة حياة ، وعودة عزيزة...
وان كانت معظم أعماله تنحو منحى واقعيا، فإن عبد الرحيم بهير سلك في رواية (طقوس العبث) منحى عبثيا، فاختار لها عن قصد عنوانا مناسبا لهذا التوجه، مما يجعل القارئ يتساءل عما هو العبثي في هذه الرواية؟ماهي هذه الطقوس العبثية التي تعبث بالإنسان؟ هل للعبث طقوس أصلا؟
قبل مساءلة العبث وطقوسه في الرواية نقدم للقارئ أول الأمر ملخصا موجزا لأهم أحداث هذا العمل حتى يتسنى له متابعة تمظهرات العبثية في الرواية بعد ذلك :
إذا كان الكاتب في هذه الرواية قد اختار شكلا روائيا اقرب إلى السيرة واليوميات باعتماد ضمير المتكلم في سرد الأحداث، واختيار أماكن واقعية، فسرعان تكشف الرواية عن عمل يتلاقح فيه الدين بالأسطورة بالأفكار الوجودية العبثية... وقبل ركوب أمواج المغامرة العبثية يضع الكاتبُ القارئَ أما تحد قد يبدو للوهلة الأولى أنه مجرد دعاية مجانية («سوف لن تغمض عينيك، حتى تقرأ النهاية.) وما أن يتعمق هذا القارئ في أدغال الرواية حتى يجد نفسه فعلا مجبرا على ركوب التحدي ومتبعة مسار هذا البطل العبثي ، ورجل الدين الحامل لكتاب الله والمغرم بتكسير (طقوس العبث) المتوارثة من خلال محاولته الإجابة على سؤال (ماذا لو ...؟)
تنطلق الرواية من بادية مغربية قريبة من مدينة الدار البيضاء، و الطفل أحمد /البطل السارد يحكي عن ظروف نشأته وتربيته الدينية التقليدية، حيث للدين سلطته التي يصعب التزحزح عنها، والمرء منذ ولادته يجد نفسه يسلك طريقا مرسوما له لا إمكانية له للخروج عنه؛ فيرى في نفسه محاسبا على كل شاذة وفادة تصدر عنه ، لذلك حاول البطل التمرد، يقول «علموني أن الله خلق ملاكين واحد على يميني والثاني على يساري، كلفهما الله خصيصا لمراقبتي وتدوين حركاتي وسكناتي وكلامي وما يجول في خاطري, وهكذا قيدوني: أليس من حقي استعمال عقلي ولو لمرة واحدة في العمر وحتى للحظة شك أو على الأقل طرح سؤال بسيط وهو: ما الغاية من وجودي»؟
في أسرة تقليدية يقودها رجل مزواج (له ثلاث نساء) : طامو أنجبت له ثلاث بنات، زهرة أنسلها أربعة ذكور فحول قبل أن يتزوج أم البطل... في ظل هذه الأسرة الممتدة ترعرع البطل، حتى إذا بدأ الأولاد الذكور يغادرون الأسرة ( الجيلالي اختفى في الحرب بين فرنسا و الألمان، عبد الله هاجر إلى الدار البيضاء...) فكرت الأسرة في تزويج الأولاد لضمان ارتباطهم بالأرض، وأمام ثورة عبد العزيز في وجه الجميع رافضا الزواج من ابنته عمه (لكبيرة ) (العانس البشعة)، ستنجح أم البطل في أقناع ابنها الغض بالزواج منها وهو (فتى لا زال في سن التمدرس) ص 21 ليجد نفسه أمام أولى تجليات طقوس العبث المرتبطة بالزواج في البادية المغربية (أحضروا العروس السمينة ... وكان من المفروض أن يحملها أخي كما جرت العادة بذلك على ظهره من الكارو إلى غرفتها لكن يبدو أن لا احد من الذكور استطاع حملها على ظهره ) 23 وأمام خوف البطل/ وطبيعي أن يخاف طفل من الزواج بامرأة أكبر منه سنا ولا تعجبه، وهو لا يعرف شيئا عن (ذلك الفعل الحيواني المقرف الذي تقام لأجله كل هذه الطقوس البهيمية ) فقد عجز عن مباشرة عروسه بعد أن لطمته لطمة تحمل طقوسا متوارثة، ليجد نفسه في دوامة من الطقوس المرتبطة بالشعوذة وقد أقنعته والدته بأن عجزه من فعل (بنات الحرام الساحرات بنات الكلب ...) ص.27. ويرضخ لطقوس الشعوذة لفك (ثقافِه) ولم يستطع استعادة فحولته إلا بعد أن اهتدت زوجة أبيه إلى إحضار فتاة شقراء جميلة عارية لتهييجه، ويكتشف أن زوجته السمينة البشعة غير عذراء مما شتت كينونته وهو الذي تربى على أن فض البكرة فريضة «لقنوني من يوم مولدي أشياء كثيرة، ومن أغربها أن فض البكارة فريضة. هكذا حملت سيفي البتار مثقلاً بثقافة بالية للقيام بما اعتبرته «واجباً دينياً». ص 32 ورغم رفضه الداخلي للعروس فقد وجد نفسه مجبرا على التعايش معها حفاظا على تماسك العائلة ظاهريا، خاصة بعد أن كشفت لهم العروس بأنها كانت على علاقة بأخيه الجيلالي... حتى إذا اختارت العودة إلى بيت أبيها عن طواعية كان ذلك سببا كافيا لجعل الأب يطرد أحمد وأمه من البيت وتحميلهما مسؤولية تشتيت العائلة، ليجد الفقيه الشاب نفسه تحت سلطة جده لأمه، ولما لم يقو الفقيه الشاب أحمد على تحمل صرامة جده، لم يجد بدا من السفر إلى مدينة الدار البيضاء والاستقرار في حي صفيحي (حي الكاريان)،وقد لزم شيخ الكتاب / إمام المسجد الذي زلزل معتقداته بعدما عبر له عن ندمه على كل ما حرم نفسه منه من شهوات وملذات باسم الدين، ونصحه بعدم تضييع العمر في البحث في أمور غيبية وأن الدين ليس سوى ( رأسمال وهمي للفقراء) ص.84 ونصحه بالقراءة وتنوير الذات والابتعاد عن طقوس الخرافة والجهل وألا يختزل الدين في طقوس لا تسمن ولا تغني من جوع، ومع ذلك ما أن طلعت روح الفقيه الإمام حتى وجد البطل نفسه يشرف على تغسيله وتكفينه ومراسيم دفنه، ثم غدا يؤم الصلاة بالناس بل ومجبرا على تعليم أولادهم، ومساعدة نسائهم في قضاء حاجاتهن... وتلعب الصدف في تحقيق أهداف بعضهن ليصبح كوخه محجا تقصده النساء للتبرك، ويدخل في علاقات جنسية عابرة حتى قصدته امرأة عجوز يوما تريد منه حجابا يحمي حفيتها الجميلة من السحر، ويجرفه حبها ويصبح حلمه ودعاؤه (اللهم اجعل لقائي بحبيبتي خديجة خلودا أبديا وابعثني اللهم برفقتها ... اجعل خديجة جنتي ... لا أحلم بجنة أنهارها لبن وعسل ... ولا أرغب في مضاجعة حور العين في فردوس أو نعيم ... وإنما أسأل ربي أن لا يحرمني من حبيبة قلبي خديجة فقط..) 65 وتتلخص كل الأماني في لقاء خديجة (لا ارغب في لقاء أمي أو أبي، ولا أهلي ولا لأي شيء مهما كانت قدسيته عندي بعد موتي . أسال الله أن تكون جنتي في وصال ابدي بحبيبة عمري خديجة..) ص 65
تختفي خديجة فجأة من حياته، ويفقد الأمل في لقائها، و يستجيب لنداء أمه فيتزوج من (مزوارة) ابنة خاله الأرملة الغنية وما كاد يطمئن إليها حتى خطرت خديجة شاخصة في حياته من جديد بذريعة البحث عن تعويذة تبعد عنها أم زوجها الشريرة، وينجرف وراء شهوانيتها وتجعله يحلق لحيته دون أن يلتفت إلى لوم أصدقائه وأمه... ويكون مرض وموت ابنة خاله سببا في الانغماس في اللذة والخمر مع خديجة... لتذوب وتختفي من جديد ويقرر التوبة لكن ما أن زار احد أصدقائه ورأى فتاة صورة طبق الأصل لخديجة حتى هم بخطبتها وتزوجها لأنها تذكره بحبه الأول، ويكشف مع تطور الأحداث أنها أخت خديجة، وأن خديجة ستأتي مع زوجها لمباركة ازديان فراشهما بمولودتهما الأولى، ليجرفهما تيار الحنين، وأبيقورية الشهوة، وبينما هما يشربان نخب إحياء علاقتهما، ترسل خديجة واشٍ لأختها يخبرها بخيانة زوجها ، لتتفاجأ الزوجة (جميلة) بخيانة زوجها لها مع أختها(خديجة) في بيتها وعلى سريرها ويصحو من كابوسه خالي الوفاض ، لا هو فاز بخديجة وتزوجها، ولا هو حافظ على زوجته وابنته، مما اضطره- بعد اختفائهما- للهروب من الدار البيضاء والاستقرار بطنجة، منتقما من الذات بمعاقرة الخمر، وما أن ظفر ببعض الاستقرار مع امرأة أخرى (لطيفة) وقد افتتح مكتبة لبيع الكتب، حتى شخصت لعنة خديجة أمامه وهي تدفع ثمن كتاب اشترته لتجرفه إلى الارتواء من معين العشق وتغيب عنه من جديد ، ويقرر التوبة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن تهشمت كل مجاديفه وأصيب بمرض عضال لم يزده داء السكري والعمليات الجراحية إلى تدهورا، وفي آخر الرواية وبعد عدة تجارب فاشلة بسبب خديجة، تعترف له خديجة بتدخلها لإبعاد كل امرأة اقتربت منه، وتنتهي هذه الأحداث المشوقة والعبثية بمهاجمة خديجة لأحمد بطريقة هستيرية وهي تتهمه بتضييع حياتها وتسخير طلاسيم شعوذته ليتحكم في حياتها ( أنت سبب تعاستي ... أيها الدجال... ملكتنني وجعلتني رهن طوعك، حياتي ضاعت بسببك ، عشت أركض وراء السراب بلا استقرار ولا أطفال ولا هدف ... أكرهك أكرهك..) ص180 ولما تجاوزت كل الحدود ( دنت مني كعاصفة هوجاء مدمرة صفعتني بكل قواها ، ثم عاودتني بأخرى أشد منها ، نزعت حذاءها ذي الكعب العالي من قدمها وانهالت علي بالضرب المبرح ... سال دمي على حاجبي ... حاولت الهروب بجلدي ... في لحظة وهي تضرب بكل قواها كتفي ورأسي دفعتها ربما بقوة ..) ص180 لتكون نهاية هذا الحب الممنوع بوفاة خديجة، وأخذ أحمد إلى السجن بتهمة القتل وهو في آخر العمر وقد تمكن منه المرض الخبيث أصبحت أيامه معدودة فاقدا القدرة على الكلام....
لا عبثية إذن أوضح من المسار الذي رسمته الرواية لأبطالها، فالرواية تصرح بتوجهها العبثي من خلال التمرد على القيم ووسم الطقوس المتداولة في المحتمع ب(طقوس العبث)، ولأن هذه الطقوس في نظر السارد (وجدت لضبط الأتباع وتحويلهم إلى جنود وقطيع غبي) ص47 فقد وظف السارد كلمتي العنوان عن قصد عددا من المرات في المتن الروائي فوظفها أول مرة لوسم مراسيم وعادات الزواج التقليدي التي فرضت عليه سلوكات غير مفهومة وجعلت (لحفلات الزواج في قريتي طقوس طريفة لا حصر لها) منها الاختفاء عن الأنظار أثناء الاستعداد للية الدخلة (كان علي الاختفاء عن الأنظار كما تنص على ذلك طقوس العبث..) وتم تغييب العقل في تفسير عدم قدرة البطل على الانتصاب وعجزه على إيلاج عروسه السمينة البشعة ليجد نفسه مجبرا على الرضوخ (عن طواعية لطقوس الشعوذة) ص28 يقول(ما تصورت أبدا أن أجد نفسيي منبطحا أزحف على بطني لتجاوز ساق أمي وهي تغمغم كلاما غير واضح وكأنها تخاطب ملك الجن...استسلمت للنساء الجاهلات وتناولت كل الأعشاب المهيجة للشهوة وقمت بكل تلك الطقوس الغريبة التي تعود إلى ما قبل التاريخ)ص28 دون أن تكون له القدرة على التساؤل حول جدوى ما يعمل؟؟و في كل مرة يتقدم فيها للزواج من امرأة يجد نفسه غارقا في طقوس عبثية غريبة وكان أعقدها عند زواجه من جميلة أخت خديجة حتى غدا يتمنى قائلا ( كنت أمني النفس بالخروج إلى الحانة واحتساء كأس مثلجة رفقة عروسي بعيدا عن عادات ثقيلة طويلة ومعقدة ... باتت مشقة لا تطاق) ص 109
عبثية الأحداث تجعل القارئ لا يستطيع التمييز بين الجاني والضحية، فتضعهما في كفة واحدة، فيشعر القارئ أن البطل / أحمد الفقيه ضحية تهور خديجة التي سعت بكل جهد لتدمير أي عش يحاول بناءه، وهو نفس الشعور الذي ينتاب القارئ هو ينظر إلى أحمد وغظه الطرف عن الأعراف والتقاليد واستعداده للتضحية بكل شيء من أجل الظفر بجلسة حميمية مع عشيقته، أنها العبثية التي لا تتلاءم والحضارة وجعلته بعد سفره إلى فرنسا يدرك ( أن الحضارة عقل وعمل ونظام ... وأن طقوس الماضي لا تتلاءم وواقع المهجر) ص 81...
العبثية وحدها تجعل رجل الدين لا يؤمن بالجنة بل يعلن رفضه لها (إلهي...إنك تدرك ضعفي وتعلم أني لن أتحمل حياة ثانية سرمدية ولو في جنات النعيم إلهي لا أريد خلودا .. لن أتحمل الخلود) وهواالفقيه الإمام الموكول إليه إقناع الناس بوجود حياة أخرى أبدية، وتجعل كل عمل دنيوي من أجل الآخرة ... بل وهو الرجل القدوة ، الفقيه نجده فتح بيته لكل من هب وذب من النساء يقول (... أفتح باب بيتي للنساء الجميلات والقبيحات أحيانا الكأس وحور العين جنتي فوق الأرض ولن أنتظر القبر لأظفر بالنعيم والنساء . قلت في نفسي )ص144 ، وإذا كان رجل الدين يجد في الدين راحته وطمأنينته، فالعبثية جعلت رجل الدين/ بطل الرواية مقتنع بأن الدين مجرد ( سلاسل حديدية تحت مسميات مختلفة ووسائل دنيئة لجأت إليه النخبة الذكية لإخضاعنا واستسلامنا لقوى الشر التي تتحكم في أرزاق الناس) ص46 .. أنه العبث أن تجد رجل الدين الذي يدعو الناس للزهد في الحياة واعتبار التقوى والقيم رأسمال المؤمن... مؤمنا حتى الثمالة بالمسائل المادية، ويعتبر المال الوسيلة لدخول الجنة بل تجد رجل الدين يقف على حدود الإلحاد،يقول فقيه مخاطبا فقيها (بالمال تشتري القصور والناس أجمعين بالمال تشيد المساجد وتقدم الصدقات وتشتري بيوتا في الجنة إذا كانت البيوت تباع في الجنة وإن وجدت... الزهد ضعف وجنون وسفلهة يا ولد..) ص49
وتزداد العبثية هلامية عندما تتداخل بالوجودية ، وعندما يحاول الفقيه البحث عن أجوبة لأسئلة وجودية كقوله (أليس من حقي ... طرح سؤال بسيط هو ما الغاية من وجودي)ص46 هنا تنهار كل القيم، وتصبح العبثية الطريقة الأنسب للتعبير عن واقع عربي عصي على الإدراك، ويكون فيه البطل مستعد لهدم عش الزوجية ، تشريد الأطفال وطرد الأم ... كل ذلك وغيره فقط من أجل نزوة عابرة ، وتصبح الرغبة الجنسية لفقيه ورجل دين هي الوسيلة والهدف الوحيد من الوجود، مبرره في ذلك كون الشخصية الإنسانية ضعيفة عاجزة عن كبح جماح هذه الرغبة: (قادتني جيوش الرغبة التي لا تقهر إلى السرير ... كان علي طرد كل المعتقدات والخرافات لأبدأ رحلة حب جدية ولذيذة مع التي ملكت قلبي وروحي وكياني. في أوصالي كانت رجفة هائلة مكتسحة آخر معاقل الرهبة والخجل والإيمان) ص 131..
هي العبثية وحدها تجعل المؤمن يكذب ويصدق أكاذيبه ويدعي قدرته على تسخير الجن وهو العالم بأن سخافة كلامه، يقول البطل لحبيبته خديجة (سأجعل العالم يركع أمامك بجرة هذا القلم القصبي الصغير.. سوف ترين أني املك القدرة على تسخير الجن لخدمتك يا خديجة.. كنت أعلم أني أكذب ولكني صدقت كذبي ) ص 58، وتجعل الإمام ينسى أوقات الصلاة وأوقات الآذان ، بل وينسى نفسه ( نسيت نفسي وأنساني الحب أوقات الصلاة وناب عني في الآذان أحد المتطوعين وما أكثرهم) ص58 ... العبثية تجعل الشخص يسير نحو الهاوية لا يلتفت لنصائح الآخرين، فكما سار البطل في طريق يلومه عليه كل معارفه، سارت زوجته مزوارة وقررت الحمل رغم نصيحة الطبيب لها بعدم الحمل، تلك عبثية الأقدار تجعل مزوارة تسعى إلى أن (تهب الحياة لغيرها على حساب حياتها) ص 74 ، وتجعل الإنسان يشعر أن لا قيمة له في الوجود وأنه غير صالح وغير مؤهل لإي شيء يقول البطل (أيقنت أنني غير مؤهل للتدريس ولا لتسيير المسجد ولا لشيء) ص76
إذا كانت قمة العبثية في رواية (الغريب) أن يذهب البطل للسينما يوم وفاة أمه ففي رواية (طقوس العبث) لقطات ومشاهد أكثر عبثية بتجاوزها كل الحدود المألوفة والسنن المعروفة: فألفينا أحمد يخرج للبحث عن حبيبته مباشرة بعد دفن زوجته (بعد دفن زوجتي خرجت أسأل عن عنوان خديجة)ص80 ، ويتمرد على كل الأعراف و القوانين التي نشأ عليها، تجره الرغبة إلى التجريب يقول بعد أن تعرف إلى فرانسوازأهدتني قلبها وجوارحها ... دعتني للعيش معها في غرفة واحدة كزوجين لم يكن الأمر... يحتاج إلى قران وطقوسه التافهة) ص 86... وتتسلل العبثية إلى أبسط السلوكات اليومية كتقسيم الإرث فلنستمع إلى السارد يصف كيف تصرف الورثة بعد هلاك أبيهم (لقد أخد كل واحد منهم نصيبه في فراش البيت وأواني المطبخ كما في الشياه والأبقار والطيور، وباعوا الحمار ووزعوا ثمنه، وكانت بحق مهزلة حينما اقترحت طامو تقطيع الأشجار والأغراس وهدم البئر، أكثر من أربعة أشهر من المفاوضات بدون جدوى... هو العبث بعينه ) ص89
وعندما توسم الحياة بالعبثية يصعب على العقل أن يتدخل، وتجعل العاقل مجبرا على قبول أشياء وهو المقتنع بعدم وجودها و بل مؤمن برفض العقل لها ، هكذا لم يكن أما أحمد سوى قبول تصرفات أمه كما هي دون أن يجادلها، لأن من العبث مجادلتها ( كانت والدتي مقتنعة بأن السحر حقيقة ، وأن الجن يتدخل في حياة الفرد ويدمرها، وأن الشيطان عدو الإنسان خلقه الله لينافسه في خلقه لم يكن من السهل علي الدخول معها في حوار العقلاء) ص97 وأقصى ما يستطيع قوله جمل قصيرة يغمغم بها في قرارة نفسه فعندما خاطبته والدته قائلة إن (أهل العروس ينتظرون سروال الزفاف ) لم يجد ما يرد به عليها سوى أن يغمغم ( ثقافة البهيم وطقوس من عبث) ص111
إن العبثية قلبٌ للقيم تغييبٌ للعقل، قتل للأخلاق وترك الغرائز تحرك الإنسان ، وإعلاء للجانب الحيواني في الكينونة الإنسانية هكذا يصبح (للرغبة الجنسية سلطانها لأنها قادرة على إهمال قواعد الأخلاق، وثوابت الضمير ومسلمات العقيدة وحتى العقل وهي تعيد بني آدم إلى أصوله الموغلة في البهيمية والتوحش) ص132 ... العبثية وحدها تحول المتخاذل، البليد الجبان إلى مقاوم ورمز للنضال فوجدنا إبراهيم البخيل الذي كان يقود دراجة هوائية دون فرامل ويصدم أحد عيون السلطة دون قصد ليلة الاستقلال،يحوله هذا الحدث العفوي البسيط إلى رمز للمقاومة وواحد من أثرياء البلد يعيش وضعا اعتباريا لم يجد معه أصدقاؤه إلا التساؤل (من كان يتوقع أن ذلك الطفل البليد سيتحول إلى ثري وبرلماني ...) ص145 هي الصدفة والعبثية التي تنسج خيوط الحياة.
ومَنْ غيرُ العبثية قادر على جعل الزواج خيانة ، والخيانة إخلاصا فهذه خديجة تعترف للبطل أنها تخونه مع زوجها تقول ( حينما تزوجت أول مرة شعرت بخيانتي لك أنت، وعندما تزوجت الراضي كنت أخونك أنت معه، واليوم أخونك مع إبراهيم) ص170 لتكون العبثية بذلك تمردا ورفضا لكل الوصايا الدينية ، الاجتماعية، السياسية وتحيل رجل الدين /رمز الورع التقوى إلى (رجل المغالطات بامتياز )ص 49 بل الرجل القادر على جعل (الكذب المغلف بالغيبيات حقيقة مقدسة لدى الغوغاء) ص 53
يستنتج إذن من خلال هذه الرواية أن العبثية أنوميا وغياب للمعيارية في المجتمع مما يجعل القارئ البسيط يفقد توازنه وتعطب موازينه فلا يميز بين المتناقضات، ويصبح متعاطفا مع الخيانة يشرب كأس نخبها اللذيذ ويبارك مسارها المشوق، ليخوض معركة ذهنية مع الكاتب/ السارد ما دام الحب محرك الأحداث، فيصبح الخلاص والفوز مرادفا للموت ، فقط لأن البطل العبثي مقتنع بلا معقولية الحياة وسعيه إلى تجريب ما لم يصل إليه العقل، وهو الشخصية البسيطة /النامية في الوقت ذاته، الشخصية السلبية/ الإيجابية التي ليس لها أهداف مرموقة في الحياة والقادرة على كسب تعاطف القارئ بأخطائهان وإن أثارت اشمئزازه بسلوكها وغياب أهداف واضحة لها ، وفشلها في فهم منطق الحياة يقول البطل (حاولت حل لغز الموت والحياة بلا طائل) ص50 فتجعل الموت خلاصها ومخلصها ، والموت وحده القادر على إيجاد الحلول لمشاكلها، هكذا كان الحل بوفاة خديجة دون معرفة هل هي ضحية أم جانية، واقتياد البطل إلى السجن وقد نخر المرض دواخله بتهمة القتل وهو المعتدى عليه... ليتضح أن العبث في الرواية أطرافه ثلاثة: الإنسان ، الواقع، والحنين الإنساني اللامنطقي الذي ينسج العلاقة بين الأطراف ويقود الإنسان نحو النهاية الحتمية، ليدرك أن (أن تحيا يعني أن تعيش العبث) وأن لاشيء قادر على أن يعطي للحياة بعض المعنى غير التمرد وهو ما عبر عنه ألبير كامي بقوله ( هذا التمرد يحقِّقُ للحياةِ قيمتها و عظمتها، لأنه يُحرِّضُ التفكيرَ و اعتزازَ الانسان بأمورٍ عدة لحقيقةٍ تتجاوزه ذاته...) وأن هذا التمرد الذي تابعناه مع أحمد في تفاصيل الرواية وجعله متشبثا بأن يعيش حاضره بوعي ضاربا عرض الحائط أفكاره الدينية نشأ عليها والتي تعده بالجنة والسعادة الأبدية ، يعيش حاضره بهدوء كما يريده دون أن يساوره ندم على ما صدر منه، وأن يخطر بباله الانتقام ممن أساء إليه، يقول كامي ( إن العبث لا يوصي بالجريمة لأنها عملٌ صبيانيٌّ تافهٌ و سخيفٌ، و الندم لا جدوى منه) هكذا وجدنا البطل هادئا حتى وخديجة تنهال عليه بكعب حذائها ، والدماء تسيل من راسه يقول (كدت أضربها ، لكن من يحب لا يكره، والضرب كراهية)ص 180 إن تفاصيل حياة البطل الفقيه أحمد تضع رواية طقوس العبث لأعبد الرحيم بهير على رأس الرواية العبثية العربية باعتبارها النوع الأنسب لواقع عربي تكسرت فيه مجاذيف المعايير ....