الوجه الآخر للحياة الفلسطينية في رواية (الوجه السود للبياض
ذ. الكبير الداديسي
تفاعلا مع الرواية النسائية بالوطن العربي، وانفتاحا على التجارب الشابة والجديدة، نفتح من خلال هذه الدراسة نافدة على الرواية الفلسطينية وجيلها الجديد، بتقديم رواية " الوجه الآخر للبياض" باكورة الكاتبة الفلسطينية ريتا طه وهي رواية صغيرة الحجم حوالي المائة صفحة من الحجم المتوسط صادرة عن مؤسسة موزاييك للترجمة والنشر والتوزيع عمان 2017 .
العتبات القرائية الخارجية للرواية كثيفة الدلالات ومتعددة الإحالات ، تغري القارئ بالإسراع في استكشاف المتن المحكي المختبئ بين دفتي غلاف رمادي يحمل عنوانا قائما على التقابل، ولوحة لامرأة بدون ملامح، بجسد أسود وفستان أبيض عليه ثلاث نقط سوداء في مناطق حساسة من جسد المرأة (القلب، الصرة والفرج) ، وضمادة بيضاء في ذراع يدها اليسرى وشعر منفوش ... مما يوحي بتعرضها لاعتداء شنيع ، وإذا أضيف إلى ذلك ما كتبه الناشر على ظهر الغلاف : " استطاعت ريتا طه أن تصوب عدستها باتجاه منطقة رخوة في المجتمع الفلسطيني منطقة لا ينتبه إليها كثيرون ، أو أنهم يغفلونها عمدا، مكتفون بخوض غمار الخراب النفسي الذي خلفه الاحتلال. رواية جريئة لأنها تعاملت مع المجتمع الفلسطيني على أنه مجتمع عادي... كأنها تقول لسنا ملائكة لدينا من الأخطاء ما يكفي لوأد عروس في ليلتها، وقتل الحب بدم بارد) هذه المؤشرات الخارجية وغيرها تسلح القارئ بأدوات تجعله لا يغوص في أحداث الرواية إلا بعد وقد تزود بمعرفة أولية تؤطر توجه العام لقراءة الرواية....
عند قراءة الرواية يكتشف القارئ أن رواية (الوجه الأسود للبياض) تحكي حكايتين مختلفتين بينهما خيط رابط اسمه وفاء:
- الحكاية الأولى تدور تفاصيلها بين زوجين (خالد وسمر) : خالد طبيب أسنان استكمل دراسته بلندن، وحيد أبويه ينحدر من وسط راق، من حين لآخر يلوح له طيف صديقيه جورج وعبد الرحمان، تزوج سمر المحامية الحاملة لدكتوراه، ابنة أب معتقل سابق تنحدر من أسرة كان للأم الدور الرئيسي فيها أحبت شابا اسمه قيس لكن الأم وقفت في وجه زواجهما، خوفا من أن يكون قيس عقيما وهو المنخدر من أسرة ضعيفة النسل، عاش خالد وسمر حياة سعيدة لا يشوبها سوى عجزهما عن الإنجاب، قبل أن تكتشف في حاسوبه صورا التقطها من شرفة البيت لفتاة كان يتابع مرورها في الشارع كل يوم وأغرم بها دون أن يكلمها أو يعرف هويتها، وهو ما جعل سمر تعيش صراعا داخليا قررت على إثره وضع حد بعلاقتها بخالد.
- القصة الثانية تتمحور حول فتاة اسمها وفاء، تنطلق القصة بتحضير وفاء لعريسها دون أن تفارقها ذكرياتها مع حبيبها الذي استشهد، وفاء وسطى أخويها منال( الكبرى تزوجت من نوفل وأنجبت ثلاثة ابناء) وأحمد (الأصغر الذي سيشتغل بورشة للنجارة). وعبر وساطة نوفل سيتقدم مروان لطلب وفاء للزواج، ولم يكن لها من خيار سوى القبول به زوجا، ورغم تقدمهما في السن (مروان 30 سنة) ووفاء شابة ناضجة تجاوزت العشرين سنة فهما قليلي التجربة جنسيا : فمروان لم يعش تجربة جنسية كاملة في حياته، ووفاء( لا تعرف كيف يتم الإيقاع بالنساء)، نتيجة لذلك ولغياب أي تعالق وتجاذب بينها كانت ليلتهما مأساوية: عاشا أغرب ليلة دخلة نامت فيها العروس، سافر فيه العريس مع ذكريات قصص حب عاشها مع حبيبتين (سمية و رولا ) هجرتاه وتزوجتا غيره... رأى في نوم عروسه وتجاهلها له إهانه كبرى، فانفجر في وجه العروس النائمة محاولا قتلها بعد اغتصابها... لتنتهي هذه الحكاية بالزج بمروان في السجن، ونقل وفاء في حالة حرجة للمستشفى بعد محاولتها الانتحار ...
وفي المستشفى حيث كان خالد يستعد للتبرع بدمه لإنقاذ أم سمر قبل إجرائها عملية استئصال الرحم، وحيث كانت ترقد أيضا وفاء التي تعلق بها خالد، ينطلق تجميع خيوط اللعبة السردية في الرواية عبر عدة مفاجآت: هكذا يكتشف خالد أن معشوقته (وفاء) هي ابنة صديقه القديم عبد الرحمان الذي سيجدد به علاقته مما سيفقده الجرأة على البوح بحبه لوفاء، وتكتشف سمر أن الطبيب المشرف على عملية استئصال رحم أمها هو حبيبها قيس الذي رفضته أمها خوفا من العقم، وتحاول تجديد علاقتها به بالذهاب معه إلى المنزل لكن التردد منعها من تجديد علاقتهما بعد التعرف إلى زوجته وأبنائه.
هكذا تنتهي الرواية على إيقاع الفشل في معظم العلاقات بين شخصيات الرواية: الفراق بين خالد وسمر/ وأد علاقة مروان ووفاء/ الفشل في تجديد العلاقة بين سمر وقيس/ قتل عدد من الأبطال (أم خالد، وأم سمر، إبراهيم....) أو التخلص منهم روائيا (إدخال مروان إلى مصحة الأمراض العقلية، ودفع خالد إلى الهجرة...)
في الوقت التي تغلق بعض الروايات على القارئ منافذ ولوجها ، يكتشف قارئ رواية (الوجه السود للبياض) مدى تعدد مداخل مقاربة هذه الرواية لتعدد التيمات التي تعالجها (الموت، السجن والاعتقال، العقم، القهر الذي لا تربطه الرواية بالفقر أو الاحتلال/ صراع الأجيال، الزواج في المجتمعات الشرقية والذي قد يتحول من حلم إلى كابوس للأسرة جمعاء، دون نسيان مدخل المكان ( رام الله (البيت) صحراء النقب حيث سجن أنصار 3/ عين مصباح/ مخيم الأمعري ... وغيرها من الأمكنة التي يحبل كل مكان فيها بدلالات قد يطول شرحها، إضافة إلى تنصيص الرواية على اختلاف الأجيال بين جيل قديم قادر مسؤول منذ الصغر(زواج مريم لمجرد ظهور نتوءتين على صدرها ) وجيل جديد عاجز عن التواصل رغم تنوع قنوات التواصل ( فشل وفاء و مروان الذي تجاوز الثلاثين سنة دون أن يعرف أية علاقة جنسية كاملة ووفاء لا تعرف كيف يتم الإيقاع بالفتيات ص61) وكل تيمة من هذه التيمات وغيرها تستحق أن تكون موضوع دراسة خاصة.
.... كل شيء في الرواية يشرع للقاري مداخل قرائية واسعة بدء بالعنوان المشحون بالدلالات والإيحاءات، والذي يفرض مقاربة تقابل الألوان ، ودراسة (البياض والسواد) في الرواية لما لهذين اللونين من دلالات مشحونة في الذاكرة الجمعية العربية ولما لهما من امتدادات داخل المتن المحكي، و تجليات متعددة في النص مبنية على التقابل بين الموت والحياة، اليأس والأمل: فالرواية تتفتتح وقد ((استحال فستان الزواج الأبيض رمزا للموت معادلا للكفن)) فكما يكفن الميت قبل غيداعه مثواه الأخير، اختارت الساردة التركيز على البياض في تحضير العروس (وفاء) هكذا جعلت كل ملابس وفاء بيضاء (الثوب الأبيض، الحذاء الأبيض يعوض قصر قامتها/ الزهور البيضاء على الشعر الأسود/ سيارةBMW الرمادية المزينة بزنابق بيضاء) ص 37 هكذا يغطي البياض كل شيء وذلك طبيعي لأن البياض يختزل كل الألوان/ ألوان الطيف بل إن (اللون الأبيض هو ما يعتمر الروس عندما تفيض بتفاصيل السنين)، هكذا يغدو البياض مخيفا وإلا لماذا تصور أفلام الرعب الأشباح بيضاء ...
ثنائية البياض والسواد حاضرة في الرواية حتى النهاية : فالرواية تنتهي على إيقاع (عاصفة ثلجية غطى بياضها أديم الأرض وجعل وفاء ( تشعر أن البياض هو أفق يتراكم خلفه الموت ) أما خالد فقد قرر الرحيل بعدما آثر ( تغليف لأثاث المنزل بالأبيض استعدادا للرحيل مقتنعا أن البياض عندما يكتسح الأشياء يحيلها إلى فضاء بارد موحش ينبئ بنهايات لا رجعة فيها) ص 100
وعند تجلي البياض والسواد في الرواية يخرج القارئ بخلاصات مفادها أن الرواية وإن بدا من خلال العنوان تضع الأبيض والأسود كلونين ضدين وطرفي نقيض فإن المتن المحكي يجع الأبيض هو ألوان قوس القزح جماع كل الألوان، والأسود لون واحد مسيطر يمتص سائر الألوان، دون الابتعاد عما هو متداول في الثقافة الجمعية التي تجعل من هذين اللونيين رمزين لمتناقضات لا حصر لها، منا الخير / الشر، الليل/النهار، العدل/الظلم، السعادة /الحزن، الغِنى/الفقر، الحب /الكراهية ، الحياة /الموت، مع تلازم اللونيين وحاجة أحدهما للآخر فلا ضوء من دون عتمة، ولا ظلّ من دون شعاع، ولا سواد مطلق بياض مطلق، ومن تم فللبياض وجه اسود. .
ليتضح أن لعبة الألوان في الرواية دراسة خاصة، خاصة إذا أراد الدارس الوقوف على كل الألوان الموظفة في الرواية سواء في الملابس ( عودة الأب من الاعتقال يرتدي زيا أخضر داكن بعد عشرة أيام من وفاة والدته) (رجال حليقو الرؤوس يرتدون زيا بنياص 31 ) أو في الأثاث ( بيت عرس وفاء ومروان :مقاعد بقماش مخملي عسلي اللون/ طاولة مستطيلة بنية/مطبخ بخزائن لونها أسود. آية قرآنية بلون ذهبي)... لخرجنا بدلالات ذات قيمة وإن لم تفكر فيها المؤلفة....
ومن القضايا التي تطرحها الرواية الاختلافُ بين جيل ونضال الأمس و جيل اليوم، وكيف كان أنسان الأمس مسؤولا ملتزما يقدر العواقب... وتكريس جيل اليوم لقيم اللا- مباة التي تولدت في نفسية الأبطال فجعل من خالد ( زوج سمر) مستسلما؛ سيان عنده مغادرة بيت الزوجية أو البقاء تحت سقفها، سيان عنده السفر أو البقاء إلى جانب زوجته وأمه المريضة، يدرك الحب، ويتركه على الفور ... ليس لديه الجرأة على مواجهة حبه لوفاء، ولا إعلان موقفه من فراق سمر.... لكن الساردة أبقت على خيط أمل ما دامت اختار في آخر مشهر بالرواية خروج الشباب الفلسطيني تضامنا شهداء غزة، وإعلان الساردة/ الكاتبة لموقفها من خلال تصوير ( صفوف الغاضبين الذي قدموا إلى هنا إنما جاؤوا من أجل غزة وليس لاسترجاع ذواتهم الضائعة) ص 104 ساعية إلى تأكيد أن لا تراجع للقضية لفائدة المصالح الذاتية الشخصية الضيقة.
في الرواية نقط مضيئة كثيرة منها ندرة الأخطاء و سلامة وشعرية اللغة، إضافة إلى تقديم النساء رمز للكبرياء، بشخصيات قوية مترفعة غن الدناءة والانحطاط، جمعهن يحترمن خصوصيات من يتعامل معهن حتى ولو كان ابنا فالسيدة نجوى لا تتجرأ على أن تسأل ابنها خالد عن سبب زياراته لها و حتى على ما يؤرقه تقول الساردة: (تتنهد مودعة ابنها آملة أن يشفى من همه الذي ظلت تجهل أسبابه) 45... ناهيك عن قيام تطور الأحداث في الرواية على المفاجأة ( طريقة التقاء خالد بصديقه ع. الرحمان/ طريقة التقاء سمر بقيس في المستشفى، اكتشاف خالد أن وفاء ابنة صديقة... التقاء عائلتي العريس والعروس في المشفى ( كان من المفترض أن تكون لحظة فرح العريس مطلوب للشرطة، العروس في غيبوبة لا أحد يعلم هل تستفيق منها ) 72...
يستنتج إذن من خلال هذه المقاربة السريعة لرواية (الوجه الأسود للبياض) كمحاولة أولى للكاتبة، أن الروائية تستحق التنويه تشجيعيا لها لمواصلة العطاءـ ونرحب بها قلما نسائيا ينضاف لما تخطه نون النسوة روائيا، لكن ذلك لا يمنع من إبداء بعض الملاحظات عساها تساهم في تنوير طريق الكاتبة، من ذلك كون بعض المشاهد في حاجة لتدخل الساردة للتوضيح : ففي الصفحات 54 ...57 سمر وخالد في عرس تصارحه باكتشاف خيانته له، وينتهي المشهد وهي تعود من المطبخ تحمل حاسوبها وتضع بجانه على السرير... وكان المشهد يتطلب إشارة إلى أن البطلين غيرا مكانهما...
وفي الصفحة 67 نجد مروان يقول لنوفل إنه لا يغرب (في العودة للبيت ما أثار غضب هذا الأخير الذي حاول كبثه حين فاجأه هاتف من الشرطة يستدعيه لكفالة قريبه) والقريب المقصود هنا هو مروان طبعا لينتهي المشهد بهما وهما يذهبان للبيت لتقصي وضع وفاء... دون أن يعرف القارئ كيف اختفى مروان وعوض بمنال التي ظهرت في السيارة تضع رأس أختها على فخذها...
إضافة إلى ذلك يشعر القارئ بوجود تداخل بين الساردة، الكاتبة والبطلتين وفاء وسمر عندما يطرح سؤال من يحكي الحكاية في رواية (الوجه الأسود للبياض) وقد تدرك الساردة ذلك التداخل فتستعين بضمير المتكلم الجمع نحن وأحيانا يحضر (ضمير ال نحن ص 87 ) ولنستمع للساردة كيف تتكلم بضمير ال (نحن) (ربما لفكرة العشق اللا متناهي أن تجعلنا نرزح تحت وطأتها فنحيل بدورنا مع مرور الوقت ألم الفقدان إلى عذوبة نستشعرها كلما سمحنا لذكرى ما بالصحو من غفوتها داخل عقولنا او كلما سمعنا...) ص87
وللقارئ الحق في التساؤل عمن يكون هذا ال(نحن) وما سبب حضوره في رواية تحكى بضمير الغائب في سرد موضوعي صادر عن سارد عارف كل شيء عن أبطاله، متحكم في رقابهم يبعد من يشاء ويقتل من يشاء ، وكيف حول السرد في هكذا مقاطع إلى سرد ذاتي السارد فيه راو وموضوع رواية، وأحد شخصيات النص معرفته ينبغي أن تكون مساوية لمعرفة الشخصيات في تجسيد للرؤية المصاحبة ( الرؤية مع) ...
هذا وقد يشعر القارئ بتداخل في بعض المشاهد : كالتداخل بين حفل زواج وفاء وحفل زواج سماح مساعدة خالد في العيادة ، وتداخل في المرض بين مرض أم خالد ومرض أم سمر مع وجود وفاء في المستشفى ففي عدد من المشاهد يكون القارئ مع وفاء الغائبة عن الوعي في المستشفى ليجد نفسه واقفا يتابع الأم على السرير يسهر عليها الطبيب، أو وخالد يستعد للتبرع بدمه لأم سمر وصورة وفاء أمامه ...
إن رواية ( الوجه الأسود للبياض) كعدد كبير من الروايات العربية بنون النسوة ( طالع كتابي ( أزمة الجنس في الرواية العربية بنون النسوة) تتراجع في القضايا القومية والوطنية لحساب القضايا الذاتية والفردية،وتنقل الصراع من الواقع إلى أعماق الذات،جاعلة أهم انكسار أو انتصار هو ما تحقق على الذات، مع رصد مظاهر من التوتر في علاقة الرجل بالمرأة لتكشف عن أزمة حقيقية في علاقتهما الحميمية، وعن اضطرار المرأة والرجل العربي إلى الارتباط بغير الحبيب والعشيق ومن يهواه القلب، هكذا ارتبطت سمر بخالد وهي تحب قيس ، ومروان يتزوج وفاء وهو مقتنع أنها لم تكن يوما فتاة أحلامه، ولم يقبل بها زوجة إلا ليعوض الفراغ الساكن في الأعماق جراء حبيبته التي تركته دون إنذار سابق، كما أن وفاء قبلت بمروان عريسا- وتجاهلته ليلة دخلتها ، نامت وكأس الشاي بيدها دون أدنى أشارة من الساردة إلى أن وفاء قبلت الزواج به رغما عنها- وقلبها لا زال يهفو إلى حبيبها الشهيد
وطبيعي أن تكون نتائج هذه المنطلقات مأساوية، وأن ينقلب الزفاف إلى ما يشبه المأتم، وأن ينتهي العرس بعريس في السجن، وعروس في وضعية صحية حرجة بالمستشفى،
تلك إذن بعض الملاحظات الأولية على رواية قد يجدها القارئ البسيط عصية على التصنيف، لتداخل أحداثها، تعدد شخصياتها، سرعة الانتقال بين الفضاءات التي تتمسرح فيها الأحداث مع التمرد على السرد الخطي الذي تتطور فيه الأحداث وفق خط تصاعدي، فهي رواية مركبة تتناوب فيها الساردة على الانتقال بين قصة (خالد /سمر) وقصة (وفاء/مروان ) في مكانين مختلفين من رام الله ، مع توظيف بعض الإرجاعيات ( FLASH-BACK) تعود بالسرد القهقرى لأحداث ماضية .