السيرة الذاتية كجنس أدبي
السردية الذاتية مفهوم عام قد يشمل عدة أشكال تعبيرية يتحدث فيها كتابها عن ذواتهم كالسيرة، اليوميات، المحكيات، المذكرات...و يبدو أن هذا الشكل التعبيري قديم قد يجد جذوره في ما كان يكتبه وينقشه القدماء على شواهد القبور للتعريف بالفقيد وذكر بعض أعماله وخصاله كما فعل الفراعنة فيما كتبوا ونقشوا على أهراماتهم ومعابدهم وقبورهم ،
على الرغم من أن مسألة التجنيس قد تم الخوض فيها إلى درجة التكرار، ورافقت تكون الأجناس والأعمال السردية منذ البدايات الأولى. كما رافقت الكتابة السردية في المغرب منذ نشأتها ،إذ طرحت أسئلة من قبيل من يتحمل وزر وضع ميثاق التجنيس؛ المؤلف، أم الناشر أم القارئ؟ وكم من نص يصدر على انه "رواية"، ثم يتناوله النقاد على أنه سيرة ذاتية ، أو يصدر في طبعة على أنه رواية، وفي طبعة أخرى يشار إلى أنه سيرة ذاتية، وأحيانا لا توضع أي علامة إشارية تحدد جنسه . ثم، هل يمكن الاكتفاء بـ"تصريح" المؤلف، أو ربما الناشر، بكون النص ينتمي إلى هذا الجنس أو ذاك ،وهل يحتم على القارئ أن يصدق تصريح المؤلف وتقتــنع كما قال لحمداني حميد "عندما يقول لنا هذه سيرة حياتي، نقول معه، إنها سيرة ذاتية، وعندما يقول لنا هذه رواية، نقول معه أيضا إنها رواية" . لا شك في أن تحديد المصطلحات ، وتتبع تطورها ،يعد أهم بوابة ندخل من خلالها ، فقد اعتبر أجدادنا المصطلحات مفاتيح العلوم.
يعتبر مصطلح "السيرة الذاتية" المتداول،حاليا،في المغرب، ترجمة للمصطلح"Autobiographie"، الذي ظهر في فرنسا، في القرن التاسع عشر(1832) ، والكلمة في أصلها الإيتيمولوجي تعود إلى الكلمة اليونانية، المركبة من:الكتابة (Graphie)، الذات (Outo)،والحياة (Bio ) . ويشير المعجم العالمي للمصطلحات الأدبية، إلى أن هذا المصطلح بمعناه الحديث ظهر في إنجلترا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر(1809)، لينتقل إلى فرنسا عام 1836 . إلا أن اللفظة لم ينتشر استعمالها في أوربا إلا في أواسط القرن التاسع عشر،ومع ذلك ظل المصطلح يطرح نوعا من الإشكال،فقد كانت الكلمة ( تدل على معنين لكنهما مختلفان..المعنى الأول هو الذي يقترحه لاروس سنة 1866 "حياة فرد مكتوبة من طرفه"...المعنى الثاني(وهو أكثر عمومية من الأول)، وهو الذي يحدد "السيرة الذاتية" باعتبارها كل نص يبدو أن مؤلفه يعبر فيه عن حياته وإحساساته، مهما كانت طبيعة العقد المقترح من طرف المؤلف) .من هذا التعريف يحدث التماهي بين السيرة الذاتية والأشكال الأخرى من الكتابات الذاتية، كاليوميات والمذكرات ، والروايات المسرودة بضمير المتكلم... ويورد عبدالقادر الشاوي في مؤلفه: "الكتابة والوجود" ، مجموعة من الآراء والأقوال، حول اختلاف المهتمين الغربيين ، سواء تعلق الأمر بمسألة ظهور المصطلح وشيوعه ، أو بمسألة تعريف الجنس وتحديده ، ويمكن إجمال بعض هذه الأراء في ما يلي:(1)
- رأي يقول بتأثير الأعمال السيرية لليونان والرومان ، على السيرة والرواية الأوربيتين الحديثتين(ميخائيل باختين).
- رأي يرى بأن ظهور السيرة الذاتية في اللغات الأوربية حديث، يرجع إلى القرن الثامن عشر، فضلا عن "اعترافات" القديس أغسطين. وهذا ما يؤكده الاختلاف في التعريف ، وهي ظاهرة غربية بامتياز، و"النجاح الذي لقيته "اعترافات" روسو،هو الذي كرس السيرة الذاتية وأوجبها كتسمية نوعية لمجموعة من السرود المتعلقة بالحيوات الانسانية" (جورج ماي).
- رأي يرى أن اللجوء إلى التاريخ، والأنتروبولوجيا، يمكن من تحديد السيرة الذاتية في لحظة ثقافية معينة. (كوسدورف)
- رأي يرى أن هناك تعالقا بين تطور الأدب السير ذاتي وصعود طبقة سائدة جديدة،هي البورجوازية، مثلما هو عليه أمر الارتباط الوثيق بين الجنس الأدبي للمذكرات وتطور النظام الإقطاعي." ( لوجون)
- أن جوهر السيرة الذاتية كجنس، كامن في المؤلف والقارئ. وما يستنتج من اختلافات أبحاث كل هؤلاء، هو صعوبة إيجاد منظور متقارب، "لاعتبارات تتعلق في الغالب بالخلفية الإيستيمولوجية..المعتمدة في قراءة النصوص السيرذاتية" . (إليزابيث بروس)

أما إذا رجعنا الى التراث العربي ، فإننا نجد أن لفظة "سيرة"، لا ترد مقترنة بلفظة "الذات"، وإنما مقترنة باسم صاحبها أو مؤلفها
والسيرة لغويا لها دلالات اختلفت باختلاف العصر والسياق، ففي معاجم اللغة وقواميسها ،جاءت السيرة(2) بمعنى السنة كما في قول أبي ذؤيب الهذلي
فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها
وقد جاءت السيرة بمعنى الطريقة والهيئة ففي القرآن الكريم (( سنعيدها سيرتها الأولى ))
اقترنت السيرة بـ"الطريقة"، و"السنة" ، ومناقب الغزاة، والتراجم ، كما تقترن أيضا ، بالترجمة ، والمرويات الشعبية الطويلة المعروفة (السيرة الهلالية / السيرة العنترية / الأزلية .. ). وفي الأدب العربي المأثورة لحياة الرسول (ص) (سيرة ابن هشام مثلا )
و في العصر الحديث ، تناول الباحثون العرب (السيرة الذاتية) على أنه جنس أدبي معروف في التراث العربي، في أشكاله المعروفة، وألفوا عدة كتب في تعريف هذا الجنس ، كما فعل إحسان عباس في (فن السيرة، 1956)،ومحمد عبدا لغني حسن في (التراجم والسير، ط3، 1980)،وماهر حسن فهمي (1970)، ويحي إبراهيم عبدالدايم (الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث، 1975)، وعبد القادر الشاوي في ( الكتابة و الوجود ) وغيرهم كثير .
أما على الصعيد المغربي، فالملاحظ أنه الى جانب استعمال لفظة (السيرة الذاتية)، فإن النقاد المغاربة استعملوا لفظة: (الأتوبيوغرافيا) أو (الأطوبيوغرافيا) ، متبنين في ذلك التحديدات والتنظيرات الغربية وخاصة تلك التي وضعها الفرنسي ( فيليب لوجون) (Philippe Lejeune) . فالأستاذ سعيد علوش، مثلا، يشير في معجمه إلى أن ((الأتوبيوغرافيا: 1- تتحدد..بالعقد الذي يربطها بالقارئ، أكثر مما تعرف بعناصرها الشكلية. 2- من هنا كانت فكرة (الميثاق الأتوبيوغرافي)، و(المشروع الأتوبيوغرافي) عند (فيليب لوجون) مركزة على: أ‌- تحليل أنساق الميثاق. ب‌- تحليل أنماط سرد المتكلم. ت‌- تحليل مظاهر النص الأتوبيوغرافي. 3- وتتحدد ..بكونها سردا إحاليا، يركز فيه على تاريخه الشخصي... 4- ولا يعارض (فيليب لوجون)، وجود تطابق ، بين الراوي والبطل..حتى في حالة استعمال ضمير الغائب))
. وبما أن المجال لا يسع هنا لعرض كل الآراء ، فإنه لا بد من الإشارة إلى أعمال/ إسهامات مغربية رائدة، رغم أن أصحابها وظفوا التنظيرات الغربية، وأخذوا عنها، وعادوا إلى التراث؛ البعيد ووالقريب، وطرح بعضهم إمكانية كون السيرة الذاتية ، في بعض جوانبها، تشكل امتدادا لفنون التراجم والسير والمعاجم الأدبية والعلمية، وما شاكلها من كتب الطبقات المعروفة في التراث. يأتي على رأس هؤلاء عبدالقادر الشاوي،الذي عمل على "التأسيس لمشروع نقدي جديد حول سؤال الأتوبيوغرافيا في المغرب" وأحمد اليبوري، الذي جعل من السيرة الذاتية والرواية التاريخية ، "تتويجا لسلسلة من التطورات التي عرفها النثر ابتداء من جنس "الرحلة"، وفي نفس السياق يدخل بحث الأستاذ عبدالله إبراهيم في السردية العربية .
و يمكن القول، بأن الإشكالية الأساسية لـ"لسيرة الذاتية"، قائمة في التعريف، ولا يمكن لأي تعريف أن يكون مطلقا. ومع ذلك ، ومهما تنوعت أشكال السيرة الذاتية فإن القارئ لا يتناولها إلا ليتعرف على كاتبها وهو يكشف خفايا نفسه ويعرض لنشأته وتربيته وأطوار حياته وما اكتنفها من تجارب وخبرات ، والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عايشها ولازمت أطوار حياته . مع ما يتطلبه ذلك من شجاعة وصراحة وعرض موضوعي دون الخوف من مواجهة الحقائق ، ما دامت السيرة الذاتية كشف للشخصية أثناء عملية الصراع بين الشعور بالذات وموقف المجتمع من هذه الذات ومدى خضوع أحدهما للآخر.
فإذا كانت السيرة الذاتية إذا هي ما يكتبه الكتاب عن حياتهم الشخصية فإن هذا الجنس يعد قديما في الثقافة العربية إذ نجد من بعض القدماء من أعلام الفكر من كتب رسائل عن حياته سواء بهدف الإخبار عن الحياة الشخصية وما عرفته من تطور وأحداث ، أو بهدف تحليل نفسية المؤلف ومواقفه ؛ كما فعل الإمام الغزالي في كتابه ( المنقذ من الضلال ) والأمير عبد الله بن بلقين آخر ملوك المسلمين بالأندلس في كتابه ( المذكرات ) وابن خلدون في كتابه ( التعريف بابن خلدون )...

وفي العصر الحديث عرف أدب السيرة الذاتية تطورا كميا ونوعيا بل لقد فاقت سير بعض المؤلفين شهرة كل ما كتبوا من كتب . فعلى سبيل المثال رغم كل المعارك التي خاضها عباس محمود العقاد في حياته وفي كتبه، فإن كتابيه «أنا» و«حياة قلم»، يبقيان أجود ما كتبه لا شيء إلا لأن العقاد خلا إلى نفسه فيهما، وكشف عن مكنوناتها ودواخلها، ودلّ قارءه على الكثير من خيباته وانكساراته.
ولا شك أن توفيق الحكيم كتب كتباً ومسرحيات كثيرة رائعة ومع ذلك يبقى من أجود كتبه كتابان هما: «زهرة العمر» و«سجن العمر» اللذان روى فيهما الحكيم سيرته الذاتية.
ينضاف إلى ذلك كتاب «حياتي» لأحمد أمين، و«غربة الراعي» لتلميذه إحسان عباس، ويعد كتاب «سجون» لميخائيل نعيمة من أنفس ما كتب في هذا الفن الجنس الأدبي ، لأن نعيمة تحدث فيه عن رحلته في هذه الحياة، وهي رحلة طويلة ممتعة تابع فيها القارئ نعيمة على امتداد سبعين سنة كاملة تبدأ من سنة 1889 وتتوقف سنة 1959م. ويصل نضج أدب السيرة الذاتية عند العرب في العصر الحديث مع كتاب «الأيام» لطه حسين بأجزائه الثلاثة وهو كتاب يؤرخ لمرحلة هامة من التاريخ العربي الحديث امتدت من العشرينيات إلى أواخر الستينيات، تاريخ صدور الجزء الثالث ، فكان كتاب الأيام مؤصّــل جنس السيرة الذاتية عربياً، وفتحاً جديداً في هذا اللون من الكتابة (خاصة الجزأين الأول والثاني ) .
إن جنس السيرة الذاتية العربية الحديثة، عندما ينبني على رواية مظاهر الحياة الخاصة، وعندما ينتقل منها إلى ملامسة مظاهر الحياة التاريخية العامة، بما يحيل عليه من وقائع اجتماعية، وما تفيدنا به من إحالات متنوعة على أعلام كانت لهم مساهمات فعّالة في مجالات السياسة والفكر والثقافة، يلتقي ما في ذلك شك بممارسات أدبية قديمة، عربية وأجنبية، أحكم أصحابها تصوير الصلات الكائنة بين الذات الفردية ومحيطها الاجتماعي. وهذه هي بعض العناصر المشتركة بين الكتابات الذاتية العربية القديمة والحديثة. لكن لملاحظ ــ رغم عراقة هذا الجنس في الثقافة العربية ورغم قناعة البعض أن جنس السيرة الذاتية قديم قدم الإنسان العربي ــ أن السيرة الذاتية العربية الحديثة لم تقتصر على الاستفادة من التراث العربي فقط، بل انفتحت عما كتبه الغرب في هذا الصدد وتعاملت بنوع من الانبهار مع جرأة وصراحة كتاب السيرة الغربيين وخاصة ما كتبه جان جاك روسو في اعترافاته. ذلك أن اطلاع جيل المترجمين لذواتهم العرب في مطلع القرن العشرين على التيارات الفكرية والأدبية الغربية، واحتكاك أغلبهم بنمط العيش الأوروبي والقيم التي كانت تسوده، قد فتح أعين أبناء هذا الجيل على عالم جديد خلخل تصوراتهم التقليدية، ومكّن أفكارهم من النضج وأثار في نفوسهم حواراً بناءً بين حياتهم الشرقية ومقومات العالم الجديد الذي انتقلوا إليه، فإذا هم نصفان يتنازعان في كائن واحد: نصف ينزع إلى الشرق ويحن إلى قيمه ومثله التي تغلغلت في كيانه. ونصف منصرف إلى الانغماس في حضارة الغرب وفي بضاعته الفكرية والأدبية المغرية، لأن هذا الغرب بات أنموذج التحضر وصورة لمستقبل الإنسانية.. فالسيرة الذاتية العربية الحديثة ان كان لها جذور في تراثنا الفكري ، فلا شك أن مرجعيتها الثقافية والفنية الحديثة هي مرجعية غربية بالأساس .
لقد احتضن مشروع السيرة الذاتية العربي الحديث، المعضلة الفردية للكاتب كما احتضن المعضلة الاجتماعية. لقد كان يبحث في تأصيل الكيان الفردي وفي إيجاد صيغة أيديولوجية قادرة على تأصيل الكيان الاجتماعي وترميم هويته المتداعية المختلة.
ولا شك أن أدب السيرة الذاتية العربية الحديثة يشكل لوحة متعددة الألوان تنبض بحياة جيل كان أفراده يلتقون طوراً في آلامهم وأشواقهم، ويفترقون أطواراً أخرى في رؤاهم وقدراتهم علي تمثل حيواتهم وتوظيف تصوراتهم لتطوير مجتمعاتهم. ولكنهم في الحالتين كانوا يسعون جاهدين إلى تأسيس صورة جديدة للإنسان العربي الفاعل في تاريخه، الساعي إلى ترميم حلقات هذا التاريخ المفقودة. فكان عطاؤهم الفكري والأدبي بلا حدّ. وسواء تميزت سيرهم بالصراحة أو المواربة ،بالدقة أو التعميم ... فيكفيهم فخراً أنهم كانوا منارات أضاءت بأنوارها عصرهم في زمن عصيب اختلطت فيه الطرق. وليس فن السيرة الذاتية الذي أنشأوه إلا دليلاً على أن الأدب العربي الحديث عرف مع هذا الجيل انعطافة جديدة سيسمها البعض أدب النهضة


يستنتج من خلال من عــّرفـــوا أو كتبوا السيرة الذاتية أن هناك أربعة عناصر/شروط، من خلالها يمكن تحديد خصائص فن "السيرة الذاتية" ولا تجتمع في غيرها، وهي:
1- شكل اللغة: أ- حكي
ب- نثري
2- الموضوع المطروق: حياة فردية، وتاريخ شخصية معينة.
3- وضعية المؤلف: تطابق المؤلف والسارد.
4- وضعية السارد: أ- تطابق السارد والشخصية الرئيسية.
ب- منظور استعادي للحكي.