إننا نريد أن ندافع عن تصور أساسي هو أن الحرية هي تجسيد
للإرادة العاقلة للإنسان، و أنها توجيه وتحكم في الميولات الغريزية. وهذا
يعني أن الحديث عن أية حرية خارج إطار العقل هو حديث متهافت وبدون معنى
حقيقي. وحينما نربط الحرية بالعقل، فهذا لا يعني أبدا إغفال الجانب الغريزي
كمكون أساسي من مكونات الكائن البشري، بل يعني فقط أن الحرية بمعناها
الإنساني هي بالضرورة حرية عقلية. ونعني بنعت عقلي هنا كل ما يشرعه العقل
من مبادئ وقواعد تنظم السلوك البشري والعلاقات بين الناس، سواء كانت
تقاليدا وأعرافا اجتماعية أو نظما سياسية أو قواعدا أخلاقية أو مبادءا
دينية أو ما شابه ذلك. إن وجود هذه القواعد والضوابط في عالم الإنسان هو
الذي يجعل سلوكه يتميز عما هو موجود في العالم الطبيعي الحيواني. فمن
المعروف أن أشياء الطبيعة، كما يرى هيجل، توجد وجودا مباشرا وأحادي البعد
هو الوجود الغريزي، وبالتالي فالحيوانات مقيدة بدوافع ومحددات طبيعية
وبيولوجية، في حين أن للإنسان وجود مزدوج؛ فهو من جهة يوجد مثل أشياء
الطبيعة وجودا طبيعيا وغريزيا، ومن جهة أخرى يوجد وجودا عقليا واعيا. ولهذا
السبب يتميز الإنسان عن الأشياء الطبيعية والحيوانات بخاصية الوعي، وهي
الخاصية التي تجعله كائنا حرا ومبدعا؛ يجسد حريته في تفكيره النظري وفي
وعيه العملي الذي يتجسد من خلال أنشطته العملية في الشغل وإبداعاته الفنية
ومختلف أنماط عيشه …

إنه بدون
العقل وما ينتج عنه من أشكال الوعي المختلفة، لا يمكن الحديث عن الحرية.
فأشياء الطبيعة لا تمتلك الحرية لأنها بكل بساطة لا تمتلك العقل بل تتحكم
فيها الغريزة. ولهذا السبب، فحينما يجعل الإنسان غرائزه تتحكم فيه، فيكون
منفعلا لا فاعلا لها، فإن سلوكه يكون بهيميا وحيوانيا ويكون مستعبدا لا حرا.

إن أشرف ما في الإنسان هو العقل، ولذلك فحريته لا تتخذ معناها الصحيح والإيجابي إلا في ارتباطها بما يسنه العقل من ضوابط وتشريعات.

قد
يقال لنا أن هناك عدة تصورات لهذا الذي يسمى عقلا، وأن هناك اختلاف في
التشريعات التي يسنها العقل سواء كانت أخلاقية أو قانونية أو غيرها، إلا أن
هذا لا يمنع من أن الإنسان يتصور دائما سلوكه ككائن حر انطلاقا مما يمليه
عليه عقله وما يراه مطابقا للمنطق العقلي والأخلاقي، وليس أبدا مما تهمس
إليه به غرائزه بعيدا عن أي حضور للعقل.

وإذا
كان البعض لا يرى أن الحرية تكمن في الخضوع لسيادة العقل، فهل يعني أنها
تكمن في الخضوع لسيادة الغرائز ؟ فكيف سيصبح العالم الإنساني إذا ما سيطرت
فيه الغرائز والشهوات وتحكمت في سلوك الناس ؟ ألا سنعود بهذا التحكم إلى
حالة الطبيعة كحالة يتصرف فيها كل واحد بحسب أهوائه وميولاته الذاتية؟

لماذا
يشرع الإنسان لنفسه قواعدا أخلاقية ونظما سياسية ويضع تقاليدا وأعرافا ؟
أليس لكي ينظم حرية الأفراد ويجعلها تتناغم وتنسجم وتتعايش؟ أليست حرية
الفرد تنتهي حينما تبتدئ حرية الآخر؟ ثم أليست القواعد الأخلاقية والنظم
السياسية والأعراف هي ثمرة مجهود العقل الإنساني ؟ أليست الحرية إذن هي
الأخرى ثمرة من ثمرات العقل؟ أليس أي حديث عنها خارج ما يسنه العقل هو حديث
لا يستقيم ولايمتلك دلالة إنسانية حقيقية؟

قد تكون
بالفعل تشريعات العقل وقواعده معارضة لحرية الإنسان، في الحالة التي تكون
فيها مثلا أعراف مجتمع ما أو قواعده السياسية لا تمثل ما هو عدل وحق. لكن في هذه الحالة علينا أن نغيرها ونثور عليها، و سوف لن نفعل ذلك بواسطة الغرائز بل بالعقل.

هكذا فقد تختلف الرؤى بصدد مدلول الحرية، لكنها على أية حال رؤى صادرة عن العقل وليس عن الغريزة.

والعقل
الذي نتحدث عنه الآن ليس هو العقل كملكة فطرية أو كأعدل قسمة بين الناس
كما يقول ديكارت، وإنما هو العقل المكتسب الذي راكمه الإنسان عبر تجاربه
التاريخية،وهوالذي يتجلى في أشكال مختلفة دينية وفنية وأخلاقية وسياسية
… وهذا العقل بهذا المعنى الثاني هو الذي سعى دوما إلى تنظيم سلوك الإنسان
وضبط ميولاته الغريزية، ومن خلال هذا إعطاء مدلول ما لمفهوم الحرية.

إن
العقل إذن هو نتاج لظروف تاريخية ما، وهو يعكس ما يسود خلال سياقات ثقافية
ما، غير أنه مع ذلك هو الذي يقدم فهما و يرسم حدودا للحرية الإنسانية.

وقد
يكون هناك دخل للجوانب الوراثية في تحديد سلوك العقل، إلا أنها وراثة
ثقافية لأن العقل ينتقل من جيل لآخر؛ فعقلنا كعرب الآن هو امتداد للعقل
العربي في الماضي، فهو إذن عقل ينمو ويتطور. غير أنه في جميع الأحوال فهذا
العقل، في مختلف مراحله التاريخية، هو الذي يشرع لسلوك الإنسان وينظر
لحقوقه بما في ذلك حق الحرية.

إن
تدخل الغرائز في نظري قد يحدث في الحالات التي يكون فيها العقل رسولا لها؛
أي أن الغرائز قد تعبر عن نفسها من خلال العقل مما يجعل تشريعاته تتجه
لخدمة مصالح وميولات غريزية لهذه الفئة أو تلك. في هذه الحالة قد يعبر
العقل عن تصور مثلا للحرية يتناسب مع الميولات الغريزية للإنسان. غير أنه
حتى في هذه الحالة فالحرية من جهة تقدم نفسها كصياغة عقلية تدعي المشروعية
حتى ولو كانت تقبع خلفها الدوافع الغريزية، ومن جهة أخرى فهي حرية مشكوك
فيها ما دام أن هناك قواعد عقلية وأخلاقية متعارف عليها وتتخذ طابعا كونيا
ومشتركا وتراعي مصالح جميع الناس دون أن تخدم الميولات والمصالح الخاصة
بفئة دون أخرى.. ويمكن تقديم أمثلة في هذا الإطار؛ فاحترام ملكية الغير
مثلا هو واجب علي تجاهه، ولذلك لا يمكنني أن أنساق وراء غرائزي و أسلبه
ملكيته مدعيا أنني حر، ونفس الشيء بالنسبة لقتل إنسان باسم الحرية
الغريزية، أو الكذب عليه أو خيانته أو عدم الوفاء بعهد معه أو الكذب عليه …الخ. فكل هذه السلوكات وغيرها مرفوضة عقليا وأخلاقيا وهناك شبه إجماع عليها، ولذلك فهي ضوابط لحرية الإنسان كحيوان أخلاقي وسياسي.

إن
السمو والرقي هو حكم عقلي وليس صفة ملازمة للإنسان؛ فقد يكون الإنسان
راقيا أو غير راقي، والذي يحدد درجة الرقي هو العقل وليس أي شيء آخر.

هكذا
فحينما يطور الإنسان علومه عن طريق عقله، سواء كانت علوما أخلاقية أو
سياسية أو فيزيائية أو غير ذلك، فإننا نقول أنه حقق تطورا ورقيا بحياته.
فإذا ما قارنا الإنسان البدائي بالإنسان المعاصر فإننا نلاحظ رقيا وتطورا
في مختلف أنماط العيش؛ كالمأكل والملبس والمسكن واللغة والمواصلات …كما نجد
تطورا في العلوم والإبداعات التقنية والفنية وغير ذلك. كما أننا قد نقارن
بين شخصين اعتمادا على معايير العقل الأخلاقي مثلا؛ فنقول إن سلوك هذا راقي
وسلوك الآخر منحط ..وهكذا دواليك.

هكذا فالطابع
الإنساني هو دائما طابع عقلي؛ فالإنسان كما يرى هيجل يطبع بما هو ذات حرة
العالم الخارجي بطابع عقلي. فهو يلقي بذاته في الطبيعة لكي ترتسم عليها،
وفي ذلك تجسيد لحريته ككائن واعي وعاقل.، ولو كان يمتلك الغرائز فقط لما
اتصف بصفة الحرية، ولكان مثله مثل أشياء الطبيعة خاضعا لقوانين حتمية.

إن
الإنساني هو العقلي والعقلي هو الإنساني؛ إذ كل منهما يفترض الآخر
بالضرورة. ولذلك فأن يكون للحرية طابع إنساني معناه أنها تتخذ طابعا عقليا،
أما إذا اتخذت طابعا غريزيا فستكون حرية حيوانية وبهيمية. وحينما نقول أن
الحرية الإنسانية يجب أن تتخذ طابعا عقليا بالضرورة، فنحن على وعي تام بأن
تصورات الناس لما هو عقلي ومعقول تختلف حسب اختلاف مذاهبهم ودياناتهم
وإيديولوجياتهم … وبالتالي فتصوراتهم للحرية تختلف، إلا أن هذه التصوات
جميعها هي تصورات عقلية صادرة عن العقل وهدفها هو تنظيم غرائز البشر
وعقلنتها.

وإذا كانت سلوكات آكلي
لحوم البشر مثلا تبدو بالنسبة إليهم سلوكات عادية ومقبولة انطلاقا من
المستوى العقلي الذي وصلوا إليه، فإنها تظل مع ذلك سلوكات غير مقبولة
انطلاقا من تصورات عقلية أخلاقية وحقوقية لاحقة. والدليل أنه لا توجد
تشريعات أخلاقية أو قانونية أو دينية اليوم تشرعن لسلوك أكل لحوم البشر، بل
يظل سلوكا غير مقبول من الناحية العقلية سواء تعلق الأمر بالعقل الأخلاقي
أو الديني أو القانوني أو السياسي أو غير ذلك.

إن
رفض مثل هذا السلوك يعني أن العقل البشري قد قطع أشواطا في الرقي
والابتعاد عن الطابع الحيواني لطبيعة عيشه وسلوكه وإحساسه، بالرغم من أن
هناك حالات تتجسد فيها سلوكات حيوانية تصدر حتى من طرف الناس في عالم
اليوم، إلا أننا مع ذلك نتحدث عما هو عام وسائد وليس عما هو استثنائي.

وإذا
كان العقل يقوم بتحجيم الحرية، فهذا شيء عادي لأن الحرية الإنسانية هي
سلوكات مقننة بقواعد العقل، وليست فوضى غريزية لا ضابط لها.

حرية الإنسان عند اسبينوزا

أود
أن أطرح أمامكم حقيقة موقف اسبينوزا من مسألة حرية الشخص. فالواقع أننا لا
نجد لدى هذا الفيلسوف ميلا واضحا نحو جهة القول بحرية الشخص كما هو الأمر
عند سارتر أو مونيي، أو الميل نحو جهة الإكراه كما الشأن عند بعض ممثلي
العلوم الإنسانية كفرويد الذي يقول بحتمية الدوافع اللاشعورية أو جي روشي
الذي يقول بالإكراهات الاجتماعية والثقافية التي يتعرض لها الفرد أثناء
مسلسل التنشئة الاجتماعية.

هذا
التأرجح الذي نجده لدى اسبينوزا بين القول بالحرية الناتجة عن امتلاك
الإنسان للعقل وبين القول بخضوعه في الآن نفسه للقوانين التي تحكم طبيعته
الإنسانية، خلق لدى تلامذتي نوعا من التشويش على مستوى الفهم؛ خصوصا وان
التلميذ يميل دائما إلى عملية التصنيف والحسم النهائي بين فلاسفة يقولون
بالإكراه وآخرون يقولون بالحرية.

لكن
صعب علي في الواقع تلبية رغبة التلميذ في عملية الحسم هاته، بصدد موقف
اسبينوزا من الإشكال المتعلق بالشخص بين الضرورة والحرية؛ فانتهيت معهم إلى
صياغة موقف اسبينوزا بصدد الحرية كما يلي: الشخص حر،
وحريته محكومة بمحددات طبيعية. والمقصود هنا الطبيعة الإنسانية؛ لأن
اسبينوزا يذهب إلى أن كل كائن يمتلك طبيعة تحتم عليه أن يتصرف في الحدود
التي تتيحها له قوانينها. وهذا ينطبق على الإنسان كما ينطبق على الحيوان
غير العاقل والنبات … بل على الله أيضا.

إن امتلاك
الكائن البشري للعقل يمكنه ولا شك من التحكم في رغباته وشهواته، عن طريق
الوعي بها وتوجيهها التوجيه الصحيح، وهنا تتبدى ولا شك حريته، وهي حرية
تتحرك داخل سياج وحدود طبيعته الإنسانية.

يقول اسبينوزا في كتابه “علم الأخلاق” ص 394:

« الجزء الأزلي في النفس هو العقل، وهو الجزء الوحيد الذي نقال بمقتضاه فاعلين …».

هكذا يكون الإنسان “فاعلا” و “حرا” بقدر ما يكون على علم ومعرفة كافية بالانفعالات المميزة لطبيعته.

وفي هذا السياق يقول اسبينوزا في “علم الأخلاق” دائما:

« بقدر ما تدرك النفس الأشياء كلها على أنها ضرورية، تكون قدرتها على الانفعالات أعظم، أي أن خضوعها لها يكون أقل ». صص 361-362

وهنا
يتحدث اسبينوزا عن “قدرة” يمتلكها الإنسان على الفعل والتحكم في شهواته
ورغباته، وهو نوع من القول بالحرية، لكن هذه القدرة والحرية محكومة بضرورة
طبيعية تتمثل في الدوافع الغريزية والانفعالات المميزة لطبيعة الإنسان.
فالخضوع إذن لهذه الانفعالات هو أمر لا بد منه، لكن درجة الخضوع تختلف
بحسب قوة الإدراك العقلي والمعرفي للانفعالات التي تحكم طبيعتنا. وهذا ما
يوضحه قول اسبينوزا:

« تكون قدرتنا على الانفعال أعظم وتكون النفس أقل تأثر به بقدر ما يكون هذا الانفعال معلوما لدينا». “علم الأخلاق”، ص 358

فمعرفة الإنسان بطبيعته البشرية وامتلاك علم دقيق بها يمكنه من بسط قدرته عليها.
وهذه القدرة على السيطرة والتوجيه تنم عن حرية نسبية يمارسها الإنسان في
حدود ما تتيحه له طبيعته. ولهذا يذهب اسبينوزا إلى التأكيد على « أننا لا
نملك سلطانا مطلقا على هذه الانفعالات». - نفس المصدر، ص354.

وهذا
يعني أن الإنسان يمتلك سلطانا ما، و بالتالي حرية ما، لكنها حرية وقدرة
على التصرف ليست بالمطلقة بل هي نسبية وتتم في حدود الوعي بما يحكم طبيعتنا.

ونجد اسبينوزا يربط بين المعرفة والقدرة على التحكم حيث يقول:

« قدرة النفس تتحدد بالمعرفة فحسب، وعجزها أو انفعالها السلبي بانعدام المعرفة فحسب».

هكذا
فكلما كانت لدينا معرفة وعلم أكثر بالانفعالاتنا والشهوات والدوافع
المميزة لطبيعتنا، كلما كانت قدرتنا على التحكم فيها وعقلنتها على نحو نثبت
من خلاله “حريتنا” عليها. فللعقل سلطته وللنفس أوامرها، لكنها أوامر لا
معنى لها، كما يقول اسبينوزا، خارج إطار الشهوات ذاتها.

ويتحدث
اسبينوزا عن أسباب خفية تتحكم في الناس، بحيث أن جهلهم لها يجعلهم يعتقدون
واهمين أنهم أحرارا فيما يصدر عنهم من أفعال. وتتمثل هذه الأسباب في
الدوافع الغريزية التي تميز الطبيعة الإنسانية، باعتبار أن الإنسان حيوان
راغب له اندفاعات وشهوات.

ويقدم
اسبينوزا بعض الأمثلة التي توضح خضوع الإنسان لانفعالاته وشهواته الطبيعية؛
حيث يذكر أن الإنسان يدرك على مستوى عقله ما هو أفضل ومع ذلك يفعل الأسوء،
أي أنه قد يعرف أن هذا السلوك أو ذاك غير مقبول من الناحية العقلية
والأخلاقية ولكنه مع ذلك يفعله. وهذا دليل على أن هناك قوى خفية تتحكم فيه
ترجع إلى الدوافع المحددة لطبيعته. كما يتحدث اسبينوزا عن الرضيع الذي يميل
إلى ثدي الأم، والجبان في حالة الفرار، والرجل في حالة الغضب الشديد،
ليثبت من خلال ذلك سلطان الانفعالات الطبيعية على سلوك الإنسان.

وعلى
العموم، لو كان الناس يتحكمون في ألسنتهم وأفعالهم لكان العالم البشري
يعيش في أحوال وظروف جيدة. لكن خضوع الناس لشهواتهم وانفعالاتهم في معظم
الحالات هو سبب كل الويلات التي عرفتها الحياة البشرية في الماضي والحاضر.

ولكي
نلخص نقول: إنه لا توجد حرية لدى الشخص خارج إطار الضرورة الطبيعية حسب
اسبينوزا. فأن أكون حرا معناه أن أكون على علم ودراية بالقوانين المحددة
لطبيعتي الإنسانية وان أتصرف بما يلزم داخل نطاق هذه الطبيعة.

فهل يستقيم إذن الحديث عن حرية طبيعية لدى الإنسان ؟ وهل القول بحرية الشخص في نطاق طبيعته الإنسانية هو دليل على حريته أم خضوعه ؟

وهل يمكننا التحدث مع اسبينوزا عن حرية و لو نسبية يتمتع بها الإنسان ؟

إننا
نجد اسبينوزا يتحدث عن حرية طبيعية يتمتع بها الكائن البشري، وهذا قد
يمكننا من الحديث عن نوع من الحرية النسبية لدى الإنسان عند هذا الفيلسوف؛
لأنه أولا ليس هناك نفي تام لحرية الإنسان عند اسبينوزا يجعلنا نقول انه
خاضع بشكل تام ومطلق. وهذا بسبب أن الإنسان يمتلك العقل الذي يجعله يعرف
الخصائص المميزة لطبيعته و الوعي بها ، مما قد يمكنه من توجيهها والتحكم
فيها بشكل حر، لكن ذلك يتم في حدود ما تتيحه له طبيعته سواء فهمنا الطبيعة
هنا على أساس أنها العقل أو فهمناها على أساس أنها الدوافع الغريزية
والشهوات والانفعالات الموجودة لدى الإنسان. فبالنسبة للعقل فإمكانياته في
المعرفة والعلم محدودة، وبالمثل قدرته على التحكم في الرغبات والاندفاعات
التي تلح عليه، أما بالنسبة للطبيعة الغريزية فهي محكومة بقوانين تجعلها
تتم في نطاق معين حتى ولو خرجت بشكل كبير وربما تام عن لجام العقل وتدخله.

انطلاقا من كل هذا لا يمكن إلا أن نتحدث مع اسبينوزا عن حرية طبيعية ونسبية، محكومة بضوابط الطبيعة المميزة للإنسان.

فالإنسان
قد يتحكم في انفعال الخوف مثلا، إلا أنه تحكم نسبي ينم عن حرية نسبية؛ إذ
لا يمكن إزالة الخوف أو تلافيه نهائيا بل يمكن فقط التخفيف منه وخفظ
درجاته. وقل الأمر نفسه بالنسبة للانفعالات الأخرى كالغضب والحب والكراهية
وما إلى ذلك.

ويبدو أن ربط الحرية
بالغرائز هو قول لا يستقيم؛ إذ أن خضوع الإنسان لغرائزه هو نفي لحريته
وليس دليلا عليها؛ ما دام أنها ستغدو حرية بهيمية في حين أن الحرية
الحقيقية هي القدرة على التصرف وفق أوامر العقل وإملاءاته.

وإذا
كانت الرغبات تعرف تعددا وتغيرا دائما ومستمرا، فلأن الإنسان كما يقول
اسبينوزا حيوان راغب. وبالفعل فوجود هذه الرغبات لدى الإنسان هو سبب في
خضوعه أو لنقل في تقييد حريته حسب اسبينوزا، لكن هذا الخضوع مصدره هو طبيعة
الإنسان نفسها وليس العوامل الخارجية إذا ما أردنا أن نبقى أوفياء للتصور
اسبينوزي، مع أنه ليس هناك ما يمنع، إذا ما أردنا تجاوز موقف اسبينوزا، من
أن نربط رغبات الإنسان بالعوامل الخارجية الاجتماعية والثقافية وغيرها.
فهناك تصورات فلسفية تربط الرغبة لدى الإنسان بالثقافة والتربية التي
يتلقاها داخل المجتمع؛ بحيث تتعدد الرغبات لدى الفرد بحسب الضغوطات القسرية
التي يتلقاها من المحيط سواء تم ذلك بشكل واضح أو على نحو خفي.

ويجب
التنبيه هنا إلى أن الحمولة الدلالية لمفهوم الرغبة في سياق فلسفة
اسبينوزا قد لا يكون هو بالضرورة الموجود في سياق فلسفي آخر. ولذلك قد يكون
من المفيد أن نقدم التعريف التالي الذي يحدد فيه اسبينوزا مفهوم الرغبة:

<
أعني بالرغبة كل المجهودات والاندفاعات والشهوات والأفعال الإرادية لدى
الإنسان، وهي تتغير وفق تغير حالات الإنسان ذاته، وقد تكون متعارضة إلى حد
أن الإنسان يصبح موزعا في اتجاهات مختلفة تجعله لا يعرف إلى أين سيتجه
>. - عن كتاب منار الفلسفة للسنة الثانية باكلوريا، ص21 -

أما
عن علاقة الحرية بالوعي، فاسبينوزا يرى أن الناس يتوهمون أنهم أحرار بمجرد
ما يعون أفعالهم لكنهم في الحقيقة يجهلون الأسباب المتحكمة فيهم. وهذا قد
يعني أن هناك في الطبيعة الإنسانية مستويات عميقة وخفية لا يتمكن العقل
والوعي من معرفتها والتحكم فيها، وهو ما أكدت كشوف علم النفس التحليلي مع
فرويد فيما بعد. وقد يكون هذا دليل على نفي حرية الإنسان أو على الأقل
القول بنسبيتها.

أيضا جهل
الإنسان بالضغوطات والإكراهات الخارجية والاجتماعية، والتي قد تمارس عليه
على نحو خفي، هو مؤشر آخر على خضوع الإنسان و تناهي حريته في الفكر والفعل
والإحساس. هكذا نجد العديد من الناس يعبرون عن أفكار وتصدر عنهم سلوكات،
يعتقدون أنها نابعة عن إرادتهم الحرة في حين أنها مستقاة من المجتمع وتم
استدماجها لديهم من خلال أساليب التربية وأنماط التنشئة الاجتماعية التي
تعرضوا لها.

يمكن التأكيد إذن على فكرتين رئيسيتين:

-
أولا أن حرية الإنسان الحقيقية لا تكمن في انسياقه وراء الأهواء والشهوات،
وإلا كانت حرية بهيمية. ولهذا فالحرية الحقيقية ترتبط لدى الكائن البشري
بأوامر العقل وتوجيهاته سواء كانت أخلاقية أو قانونية أو غيرذلك.

-
ثانيا أنه لا يستقيم الحديث عن الحرية لدى الإنسان إلا في إطار انفتاحه
على الغير وتعايشه معه. وبهذا المعنى يعتبر الغير شرطا أساسيا لكي يحقق
الأنا ذاته ويبرز حريته. وقد دافع هيجل عن هذه الفكرة من خلال حديثه عن
الصراع الحتمي الذي لا بد أن يخوضه الأنا مع الآخر من أجل أن يثبت ذاته
ويحافظ على حريته. فلا معنى إذن للحديث عن حرية حقيقية لدى الفرد وهو في
عزلة تامة عن الناس. ولو وجد مثل هذا الفرد المنعزل عن الآخرين، كما هو حال
الطفل المتوحش فيكتور، لما أمكننا أن نقول عنه أنه كائن حر ما دام يعيش
وجودا طبيعيا مباشرا لا يختلف كثيرا عن وجود باقي أشياء الطبيعة، هذا
بالرغم من أن البعض سيتحدث عن امتلاك هذا الطفل لما يسمى بالعقل الفطري.
لكن يبدو أن مثل هذا العقل الفطري لا يؤهل صاحبه لكي يكون كائنا حرا
بالمعنى الإنساني الخالص.

إذن فالحرية الحقيقية هي
ذات طابع إنساني وثقافي، وهي لا تنطبق إلا على الكائن البشري ككائن واعي
وثقافي، كما أنها حرية تفترض كما أسلفنا الغير كطرف أساسي فيها.

بعد
الإشارة إلى هاتين الفكرتين لا بد أن نمر الآن إلى تقديم بعض التوضيحات
ولو بشكل مختصر حول مفهوم الحرية عند اسبينوزا، والتي يمكن نعتها بالحرية
الطبيعية.

بالنسبة لاسبينوزا كل
الناس أحرار في حدود ما تسمح لهم طبيعتهم بذلك. بل إن اسبينوزا يطبق هذا
التصور على كل الكائنات، بل أيضا على الله؛ فكل كائن يتصرف بالضرورة وفقا
للقوانين التي تميز طبيعته، ولا يمكنه أبدا التصرف خارج الضوابط والمحددات
التي تحكم هذه الطبيعة.

هكذا
فحرية الإنسان مرتبطة بطبيعته، ولذلك فهي حرية نسبية؛ فيها تحكم نسبي للعقل
في الشهوات والانفعالات الطبيعية، كما نجد فيه خضوعا لهذه الدوافع
الطبيعية، وذلك بحسب ما إذا كان الإنسان فاعلا أو منفعلا، مستحضرا للعقل أو
مغيبا له. وفي جميع الأحوال لا يمكن للإنسان التصرف خارج نطاق ما تتيحه له
طبيعته، سواء فهمت هذه الطبيعة على أساس أنها العقل كملكة فطرية أو فهمت
على أساس أنها الدوافع الغريزية التي تولد مع الإنسان.

إن
المعرفة العقلية بالانفعالات والشهوات تمكن حسب اسبينوزا من توجيهها
وتصريفها على نحو أفضل، وهذا التوجيه العقلي هو الذي تتبدى من خلاله نوع من
حرية الإنسان، إلا أنها حرية تتحرك في نطاق ما تسمح به الطبيعة الإنسانية.
فلا يمكن للإنسان أبدا أن يتجاوز القوانين المحددة لطبيعته؛ بحيث لا يمكنه
مثلا أن يتصرف كملاك أو إلاه، لأنه ببساطة لا يمتلك طبيعة الملاك أو
الإله.

أما بالنسبة للطفل المتوحش، فهو سيتصرف حسب
اسبينوزا بحكم طبيعته كطفل متوحش ولا يمكنه أبدا أن يتجاوز حدود ما تتيحه
له طبيعته. إن لمثل هذا الطفل شهوات ودوافع غريزية ستتحكم ولا شك في
تصرفاته، وإذا كان يمتلك عقلا فطريا وكان مثل هذا العقل سيسمح له بالتحكم
في غرائزه وتوجيهها، فبإمكانه أن يفعل ذلك ما دام أنه يدخل في نطاق الطبيعة
المميزة لهذا الطفل. لكن السؤال الذي يطرح هنا هو: هل فعلا بإمكان العقل
كملكة فطرية السيطرة على الغرائز وتوجيهها ؟ أليس أن هذا العقل الذي يسيطر
ويوجه ويتحكم هو عقل مكتسب ومكون -بفتح الواو- وليس فطريا ومكونا -بكسر الواو- ؟؟

إن
مثل هذا التساؤل يجعلنا نذهب إلى القول بأنه يصعب الحديث عن حرية لدى
الطفل المتوحش؛ ما دام أنه لم يكتسب عقلا أخلاقيا أو قانونيا أو دينيا مثلا
يمكنه من إبراز حريته من خلال التحكم في شهواته وتوجيهها، وما دام أنه لم
ينفتح على الغير بعد باعتبار أن مثل هذا الانفتاح هو شرط ضروري للحديث عن
الحرية بمعناها الإنساني الحقيقي.

ليس
المقصود بالحرية الطبيعية عند اسبينوزا أن يعيش الإنسان معزولا في
الطبيعة، بل هي تعني فقط التصرف في حدود الضوابط التي تحكم الطبيعة
الإنسانية. فأن يكون الإنسان حرا هو أن يستخدم عقله لتحقيق معرفة برغباته
وشهواته، والعمل على التخفيف من حدتها وتوجيهها بما يناسب، أما أن يتلافاها
ويسيطر عليها بشكل مطلق فهذا غير ممكن حسب اسبينوزا، وهو واضح في قوله:

« أننا لا نملك سلطانا مطلقا على هذه الانفعالات».