يعيش الإنسان خبرات مختلفة في الحياة، وهي في أساسها خبرات أخلاقية ترتبط بأفعال تصدر عن الكائن البشري لتجسد مضمونا ذا قيمة أخلاقية معينة. إن عالم الحيوانات غير
العاقلة هو عالم محكوم بمحددات بيولوجية وطبيعية، والسلوكات التي تتم داخله لا
توصف لا بالخيرة ولا بالشريرة. فالخير والشر هما معنيان لا يحتملهما سوى السلوك
البشري. وهذا يعني أن الإنسان كان مسؤول بما يشرعه لنفسه من مبادئ وواجبات أخلاقية.
إن الفعل الإنساني هو فعل قصدي يروم تغيير العالم عن طريق الإلقاء بذاته في الأشياء
من أجل رسم غاياته عليها. والفعل الخلقي يتوخى هذا الهدف بالذات؛ إذ يروم من خلاله
الفرد البشري التأثير سواء على العالم الطبيعي أو عالم الأغيار من الناس. هكذا
يترتب عن الفعل الأخلاقي أثر إما حسن أو سيئ سواء على صاحبه أو على الآخرين.
إن الإنسان ككائن أخلاقي سعى دوما إلى سن قوانين أخلاقية لتنظيم سلوكه وضبط علاقاته
بغيره من الناس؛ والسؤال الأخلاقي الأساسي الذي كان يواجهه هو الذي حدده كانط كما
يلي: « ما الذي ينبغي أن نعمله ؟ »، وهذا يعني أن الإنسان حر من جهة وانه يسعى
لمنح أفعاله دلالات ومقاصد ومعاني محددة.
وإذا كان الإنسان كائنا أخلاقيا فمعنى ذلك أنه يمتلك الإرادة وأن أفعاله هي أفعال
إرادية وأخلاقية. فللإنسان القدرة على تذكر الماضي والتطلع للمستقبل، وانطلاقا من
ذلك يعمل على إعادة إنتاج الواقع وفقا للقيم التي تراكمت لديه في ذاكرته
التاريخية، ووفقا أيضا لصورة ذلك الكائن الذي يريده في واجب وجوده أو وجوده الممكن.
إن الفعل الإنساني هو فعل أخلاقي لأنه فعل غائي وقصدي يقوم على التصور وإدراك القيمة
التي يريد أن يسم بها سلوكه، والنتائج التي يتغيى بلوغها. من هنا فالأفعال
الإرادية للإنسان تجعله حرا يختار بين إمكانيات مختلفة، كما تجعله مسؤولا يتحمل
نتائج اختياراته. كما أن حياة الإنسان تتسم بطابع الاتساق والنظام والترابط، بحيث
أن كل فعل له علاقة بأفعال سابقة عليه أو لاحقة مما يتخذ معه الفعل الإنساني طابعا
أخلاقيا وغائيا.
وإذا تأملنا السلوك البشري نجده مرتبطا بفكرة الواجب الأخلاقي الذي يجثم بثقله على
العقل البشري، ويوجه حركاته وأفعاله سواء تجاه ذاته أو غيره أو وطنه أو إلهه. كما
أن الإنسان يسعى دائما إلى إضفاء طابع المشروعية والأخلاقية على سلوكاته، ويبحث عن
شتى التبريرات لإقناع ذاته وغيره بأن ما يفعله هو مطابق للشرف والنزاهة وحسن الخلق.
إن الإنسان يفعل ذلك لأنه يريد أن يتجاوز مستوى الحياة البهيمية المحكومة بالميولات
الغريزية، لكي يرقى بسلوكه إلى مستوى الحياة العقلية من خلال تنظيم أفعاله ومراقبة
دوافعه وإصلاح مجتمعه. ومراقبة سلوكاته وإصدار أحكام عليها هو ما يمنحها طابعا
أخلاقيا ينفرد به الإنسان.
إن الإنسان إذا صح التعبير يعيش في عالم أكسيولوجي بالإضافة إلى العالم الطبيعي
البيولوجي؛ إنه يصنع عالما مليئا بالدلالات والقيم انطلاقا من المبادئ التي
يختزنها في ذاته وكيانه. وهذا يظهر في إبداعه لعوالم متعددة في مجالات الفن
والسياسة والدين والعلم والعادات والنظم الثقافية المختلفة.
من خلال الأخلاق إذن يسعى الإنسان إلى تجسيد سموه فوق مملكة الطبيعة، وإبراز جلال
قدره والمحافظة على الكرامة التي تجعله غاية في ذاته ويسمو على كل الكائنات
الأخرى. كما أنه يعمل على تحويل الطبيعة من أجل صنع الحضارة التي تحمل القيم التي
يؤمن بها والغايات التي يسعى إلى تحقيقها. فالتقدم الصناعي هو ثورة ثقافية
وأخلاقية سعى الإنسان من خلالها إلى تغيير الطبيعة وتشكيلها بحسب القيم والمعاني
التي أراد أن يمنحها للكون المحيط به.
[justify]