في إطار تقديم أمهات الكتب الفلسفية، أقدم
لقراء المنتدى الأعزاء تلخيصا لأهم الأفكار الواردة في كتاب “تأملات ميتافيزيقية”
لروني ديكارت، وهو كتاب أساسي لفهم تصور ديكارت للقضايا الميتافيزيقية الكبرى؛
الله والنفس والعالم وما تطرحه من إشكالات عويصة.
وينقسم الكتاب كما هو معروف إلى ستة تأملات:

*التأمل الأول: في
الأشياء التي يمكن أن توضع موضع شك.
وقد أعلن فيه ديكارت شكه في كل شيء ، وذلك من
أجل تأسيس كل شيء من جديد. هكذا نطلق ديكارت من الشك في الآراء السائدة التي لم
تنفذ إلى ذهنه عن طريق العقل، كما شك في المحسوسات لأن الحواس تخدعه ولأنه لا يقدر
على التمييز بين حالة النوم وحالة اليقظة.
كما شك ديكارت في المعقولات وفي الحقائق
الرياضية انطلاقا من افتراضه لفكرة الإله الخادع أو الشيطان الماكر، الذي قد يصور
له الأشياء على نحو معين في حين قد تكون على نحو آخر.
· التأمل الثاني: في طبيعة النفس
الإنسانية وان معرفتها أيسر من
معرفة الجسم.
في هذا التأمل نجد ديكارت
يبحث عن نقطة ارتكاز يبني عليها كل الحقائق. وقد عثر على نقطة الارتكاز هاته في
أول حقيقة يقينية تتمثل في قوله؛ “أنا أفكر، أنا موجود”، وهي حقيقة حدسية يدرك
العقل صحتها مباشرة، ولا يحتاج في ذلك إلى استدلال عقلي. هكذا اعتبر ديكارت أن
التفكير هو الخاصية المميزة للأنا أو الذات، بينما الامتداد هو الخاصية المميزة
للأجسام.
والامتداد لا يمكن إدراكه
بالحواس أو المخيلة، وإنما يتم إدراكه بالفكر وحده. وقد قدم ديكارت مثال قطعة
الشمع التي تتخذ عدة أشكال إذا ما تم تقريبها من النار، ولكنها تحتفظ بخاصية
جوهرية فيها وهي أنها جسم ممتد.

· التأمل الثالث: في الله وأنه
موجود.
يسعى ديكارت هنا لإثبات وجود الله كضامن
للحقيقة، لأنه لا يمكن أن تكون البداهة معيارا للحقيقة ما لم نستبعد فكرة الإله
المضل، باعتبار أنه خالق الأفكار البديهية والضامن لوجودها؛ فبدون وجود الله لا
يمكنني أن أتأكد من وجود أية حقيقة.
وقد ميز ديكارت في هذا التأمل بين ثلاثة
أنواع من الأفكار:
-
الأفكار
الخالصة: وهي التي لا يعتريها الخطأ؛ مثل تصوراتي عن الأشياء كفكرة الله والإنسان.
-
الأهواء: وهي
أيضا لا مجال فيها للخطأ لأنها مجرد رغبات؛ أي أنها إضافة رغبات إلى فكرة الموضوع.
الأحكام: وهي
تلك التي نضيف فيها إثباتا أو نفيا إلى فكرة الموضوع، ولذلك فهي معرضة للخطأ؛ لأنه
قد لا تكون أحكامي مطابقة للحقيقة الفعلية للموضوع.
كما نجد ديكارت يميز أيضا بين:
أفكار فطرية:
وهي أفكار أولية توجد في العقل منذ البداية، كفكرة الهوية والعلية والوجود
والحقيقة.
-
أفكار متخيلة:
وهي الأفكار التي يركبها الذهن انطلاقا من صور محسوسة دون أن يكون لها وجود واقعي؛
كفكرة الحصان المجنح، أو الحيوان الذي نصفه إنسان ونصفه فرس.
-
أفكار حسية:
وهي تلك التي تعرض علينا من الخارج عبر الحواس؛ كفكرة الشمس والحرارة
ويميز ديكارت أيضا بين ثلاثة أنواع من
الوجود:
-
الوجود
الموضوعي: وهو الوجود الذهني، أي الشيء من جهة أنه متصور في الذهن.
-
الوجود
الفعلي: وهو الوجود خارج الذهن، أي الواقع الحسي.
-
الوجود
الأشرف: هو امتلاك الشيء كل الكمال الذي في الوجود الفعلي وزيادة عليه.
ويرى ديكارت بعد هذا أن أفكاره عن الأجسام
والحيوانات وعن الملائكة والناس تجد علتها في نفسه وليس في أية علة مختلفة عنه.
لكن فكرته عن الله كجوهر لامتناهي، خالد وواسع القدرة لا يمكن أن تكون صادرة عن
نفسه، بل هي فكرة لا يمكن أن يكون قد وضعها فيه إلا جوهر لامتناه حقا هو الله،
وهذا دليل على وجوده.
هكذا يقدم ديكارت في هذا التأمل الثالث
دليلين أساسيين على وجود الله، وسيقدم الدليل الثالث في التأمل الخامس، وهو الذي
يسمى بالدليل الأنطلوجي. وهذان الدليلان هما:
-
فكرة الكائن
اللامتناهي التي أحملها في نفسي لا يمكن أن تكون صادرة عني ما دمت كائنا متناهيا،
فإذن هي فكرة وضعها في نفسي كائن لامتناهي هو الله.
-
كوني كائن
ناقص يترتب عنه أن هناك كائن كامل هو علة وجودي وهو الله؛ إذ لو كنت خلقت فنسي
لمنحتها كل الكمالات التي تنقصها.
ويوضح ديكارت فكرة اللامتناهي بقوله؛ إنها
فكرة إيجابية جدا وليست مجرد سلب للمتناهي، ذلك أن فكرة المتناهي نفسها تفترض وجود
فكرة اللامتناهي؛ لأنه لم يكن من الممكن أن أعرف أنني متناهي وناقص إذا لم يكن لدي
فكرة عن موجود لامتناه وكامل. كما أن فكرة اللامتناهي هي فكرة حقيقية وتمثل شيئا
واقعيا، وهي أيضا فكرة واضحة ومتميزة لأن كل الكمالات متضمنة فيها. إضافة إلى أن
فكرة اللامتناهي غير ناتجة عن زيادات متعاقبة في المتناهي، مادام أن كل متناهي
يمكن دائما أن يتلقى زيادة جديدة.
ويشير بعد ذلك ديكارت إلى فكرة الخلق
المستمر؛ ومفادها أنني لا أستطيع أن أبقى في بعض الزمان إلا إذا كنت مخلوقا في كل
لحظة من جديد. فأنا لا أملك القدرة على البقاء أو على منح نفسي الوجود في كل لحظة،
وهذا يدل على أنني لست خالق نفسي.
· التأمل الرابع: في الصواب
والخطأ
يتساءل ديكارت في هذا التأمل عن منشأ الخطأ.
وقد استبعد أن يكون الله هو سبب الأخطاء التي أقع فيها. فإذا لم يكن الله هو علة
خطئي، فما منشأ خطئي؟ هل أخطئ لأنني موجود ناقص ومتناهي؟ ربما، ولكنه تفسير غير
مقنع في نظر ديكارت. ولذلك فقد لجأ إلى التمييز بين قدرتين لدى الإنسان؛ قدرة
التصور كفكرتي عن المثلث، وقدرة الإرادة وهي قدرة لامتناهية وكاملة في نوعها، إذ
أمتلك كل الحرية في أن أريد الشيء أو لا أريده.
والخطأ في نظر ديكارت غير ناتج عن الفكر
وحده، لأنني بالفكر لا أثبت ولا أنفي بل أتصور أفكارا عن الأشياء، وهي أفكار خالصة
لا تتضمن خطأ أبدا. ولهذا فالخطأ ناتج عن تجاوز الإرادة لنطاق التصور الذهني؛ أي
أن الإرادة قد تطال أشياء لا أحيط بها علما ولا يستطيع إدراكها ذهني، وهو بذلك
يخطئ حينما يريد أن يصدر حولها حكما.
ولهذا السبب علي أن أتوقف عن الحكم على
الأشياء التي لا أعرفها في وضوح وتميز، لكي أتجنب الوقوع في الخطأ.
*التأمل الخامس: في
ماهية الأشياء المادية والعود إلى الله ووجوده.
يمكن التمييز في الأشياء المادية حسب ديكارت
بين أعراضها وجوهرها. فالأعراض تتمثل في المظاهر الخارجية المتغيرة والتي تدرك
بالحواس، والجوهر الذي يتمثل في خاصية الامتداد التي تمثل حقيقة الأشياء المادية،
وهي خاصية أدركها بالفكر وحده.
ولذلك رأى ديكارت أنني أستطيع أن أستخلص من
ذهني أفكارا عن بعض الأشياء، وأن كل ما أتصوره بوضوح أنه يخص طبيعة هذه الأشياء
فهو يخصها في الواقع. ولذلك فحقيقة الأشياء تستمد من التصور الذي أكونه عنها في
ذهني. وهنا تظهر النزعة الذاتية واضحة عند ديكارت؛ إذ لا وجود حقيقي للأشياء إلا
من حيث أنني أمتلك عنها تصورات في ذهني.
ونلاحظ هنا تجاوزا حقيقيا من طرف ديكارت
لتصور أرسطو للعالم؛ فإذا كان أرسطو يقسم العالم إلى قسمين: ما فوق فلك القمر وما
تحت فلك القمر، فقد أصبح العالم مع ديكارت هو عالم الامتداد، وأصبحت الحركة محكومة
بقوانين الميكانيكا.
كما نجد هذا التأمل الرابع يتضمن تقديم دليل على وجود الله هو الدليل الأنطلوجي، وتقديما لفكرة الضمان الإلهي.
ويمكن التعبير عن الدليل الأنطلوجي على وجود الله كما يلي:
-
الله حائز على كل الكمالات
الوجود كمال.
إذن الله موجود.
أما فكرة الضمان الإلهي فيمكن التعبير عنها كما يلي:
أنا أدرك بعض الأفكار في ذهني على أنها أفكار
حقيقية، إلا أنها تبقى عرضة للشك إذا ما افترضت أن الذي خلقني يضلني، وهو قد جعل
عقلي ذا طبيعة بحيث يخطئ حتى في الأشياء التي يتصورها بديهية. ولتجاوز هذا المشكل
يستلزم أن أقر بأن الله منزه عن التضليل وأنه الضامن للحقيقة البديهية التي أدركها
بعقلي.
*التأمل
السادس: في وجود الأشياء المادية وفي التمييز بين نفس
الإنسان وبدنه.
يسعى ديكارت في هذا التأمل إلى الإجابة عن
سؤال أساسي هو: هل الأشياء المادية موجودة وجودا واقعيا ؟
وفي إطار الإجابة عن هذا السؤال، ميز ديكارت
بين التصور أو التعقل الخالص الذي ينصب على الفكر وحده وبين التخيل الذي يتجه فيه
الذهن صوب الأشياء الحسية.هكذا فقوة التخيل ليست ضرورية لماهية نفسي ، كما أنها
قوة تعتمد على شيء يختلف عن نفسي وهو وجود الأجسام. وإذن يمكن أن نستنتج من قوة
التخيل أن الأشياء المادية موجودة، وإن كان إثبات وجودها هو على سبيل الاحتمال
فقط.
هكذا يمكن التمييز لدى ديكارت بين ثلاث ملكات
للفكر: التعقل والتخيل والإحساس. فالتعقل هو العقل وهو يفكر في ذاته، بينما التخيل
والإحساس يعبران عن العقل وهو يفكر في الأشياء الخارجية. و التخيل والإحساس هما
قوتان مرتبطتان بجوهر الأنا المفكر، فلا وجود لهما بدون الفكر. ولكن وجود الفكر
ممكن بدون التخيل والإحساس.
ويميز ديكارت في هذا التأمل السادس بين الجسم
والنفس كجوهرين مختلفين؛ جوهر الجسم هو الامتداد وجوهر النفس هو التفكير.
وإذا كان قد أثبت وجود الأشياء المادية عن
طريق فكرة التخيل، فإنه يحاول أن يثبتها أيضا على نحو آخر يمكن التعبير عنه كما
يلي:
لدي قوة حاسة ومنفعلة، وهي قوة تقتضي قوة
فاعلة تبعث فيها الأفكار عن الأشياء الحسية. هذه القوة لا يمكن أن تكون موجودة في
مادمت لست إلا شيئا مفكرا. وإذن فهذه القوة خارجة عني.
وهذه القوة يمكن أن تكون إما جسما، وإما أن
تكون إلها. لكن الله الخالق لوجودي قد أعطاني ميلا قويا إلى الاعتقاد بأن هذه
الأفكار صادرة من الأشياء الجسمانية. وإذن فهذه الأشياء موجودة في الواقع.
هكذا انتهى ديكارت إلى القول بأن
الطبيعة التي منحني الله إياها هي التي ترشدني إلى المعرفة الصحيحة بالأشياء
الجزئية والظاهرة، كحجم الشمس والضوء والصوت. وأول ما ترشدني الطبيعة إليه هو أن
لي بدنا، وأني لست مقيما فيه كالنوتي في سفينته، بل إني متحد به اتحادا يجعلني
وإياه شيئا واحدا.
وتعلمني الطبيعة أيضا أن هناك أجساما كثيرة
تحيط بجسمي، وأنها مغايرة لبعضها البعض، وأنها تؤثر في بشتى ألوان الراحة والتعب.
هكذا نجد ديكارت في آخر الكتاب يعيد
الاعتبار إلى الحواس بعد أن شك فيها في بداية الكتاب؛ فهو يرى هنا أنه من المحقق
فيما يتعلق بمصلحة البدن أو مضرته، أن الحواس ترشدني إلى الصواب أكثر مما توقعني
في الخطأ. كما أنه متى كانت حواسي المختلفة على اتفاق فيما بينها، وكانت جميعها
على اتفاق مع ذاكرتي ومع إدراكي، ففي مقدوري أن أحكم على أشياء الوجود حكما
يقينيا. وليس من سبيل إلى أن أخطئ في هذا الحكم، فما كان الله مضلا.
هكذا نلاحظ كيف يلجأ ديكارت إلى فكرة
الله كضامن للحقيقة، ولسلامة العقل والحواس معا كمرشديين إلى الصواب إذا ما
استخدما استخداما مشروعا.
وأملي في الأخير، أن يمكن هذا التقديم لكتاب
التأملات القراء من الاطلاع على الأفكار الأساسية لفلسفة ديكارت، وعلى ضوء هذه الأفكار
يمكن قراءة باقي كتبه الأخرى وفهم نسقه الفلسفي بصفة عامة.