قانون الدولة ودولة القانون
"القانون فوق أثينة"
أفلاطون
تتقاطع مختلف "النظريات" السياسية في تعريف الدولة بعناصرها الأساسية: الأرض والشعب والسلطة السياسية. وتتحدد هذه العناصر دوماً بماهية الدولة وبنيتها ووظيفتها. وقد أشرنا في مقال سابق إلى أن الدولة شكل سياسي للوجود الاجتماعي المتعين في المكان والزمان، وأن جميع أشكال الحكم هي تناقض في ذاتها حيال مضمونها الذي هو الشعب، باستثناء الدولة الديمقراطية التي تنبثق سلطتها السياسية عن الشعب بالانتخابات المباشرة الحرة والنزيهة. ولعل ماهية الدولة الديمقراطية الحديثة، بصفتها تجريداً للعمومية، وتعبيراً عن الكلية الاجتماعية، هي التي تحدد بنيتها ووظيفتها، وتحدد من ثم طابع العلاقة بين الأرض والشعب والسلطة السياسية. وماهية الدولة الحديثة بصفتيها هاتين هي القانون. الأرض، في هذا السياق، تكف عن كونها مجرد رقعة جغرافية وبيئة طبيعية لتغدو مجالاً لفاعلية الشعب وقواه المنتجة والمبدعة، أو مادة لعمله وفاعليته الإنتاجية، وكل إنتاج هو استهلاك. والشعب، في السياق ذاته، يكف عن كونه سديماً بشرياً، أو جمعاً حسابياً لأفراد منعزلين ومنبتِّين ليغدو كياناً سياسياً قوامه مواطنون أحرار تقوم فيما بينهم علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية وأخلاقية تجعل من كل واحد منهم عضواً في المجتمع والدولة. والسلطة السياسية تكف عن كونها مجرد ولاية على البشر، أو مجرد أداة قهر طبقية لتغدو تعبيراً عن سيادة الشعب، وعن كونه مصدراً وحيداً لجميع السلطات ومصدراً وحيداً للشرعية.
ويُعرَّف القانون، في جميع الميادين، بأنه المتكرر في الظاهرة، و/ أو في الظواهر. وغير المتكرر هو العَرَضي الذي يجعل مملكة القوانين مفتوحة على اللانهاية، فخلف كل مصادفة يقبع قانون. والقانون، في موضوعنا، تعبير عما هو مشترك بين جميع المواطنين، وجميع فئات المجتمع وطبقاته وقواه السياسية. فهو، من ثم، مبدأ وحدة المجتمع والدولة. وغير المشترك هو الذي يجعل القانون، بصفته العامة والمجردة، مفتوحاً على اللانهاية، ويجعل من ثم جميع الدساتير والمدونات القانونية قابلة للنمو والتطور والتغير وفقاً لنمو المجتمع المعني وتطوره وتغير علاقاته الاجتماعية. وجميع القوانين والتشريعات التي عرفتها البشرية جاءت في صيغة النهي، لا في صيغة الأمر؛ ذلك لأنها تحدد دائرة الحقوق، لا دائرة الواجبات، ولذلك كان الأصل في القانون هو الحرية، مثلما الأصل في الشرع هو الإباحة. القانون يعاقب ولا يثيب؛ لأن حقوق الفرد والأفراد لا ترقى إلى مستوى حقوق المجتمع، ففي القصاص حياة للمجتمع وحقه في الأمن والاستقرار. (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) كل مواطن حر ما لم يتعدَّ حدود القانون، وكل شيء مباح ما لم ينه عنه الشرع. ولا نغالي إذا قلنا: إن سيادة القانون على القوي والضعيف وعلى الغني والفقير وعلى الحاكم والمحكوم هي معيار قوة الدولة ومنعتها، ومعيار الوحدة الوطنية. وإن الشعوب التي تدافع عن قوانين بلادها هي التي تستطيع الدفاع عن أوطانها.
حين تضمر سيادة القانون أو تضمحل، كما هي الحال عندنا، تكف الدولة عن كونها دولة سياسية، بل عن كونها دولة، وتغدو سلطة غاشمة فحسب، ولا معنى لجميع ما تصف به نفسها من صفات، لأن ضمور سيادة القانون أو اضمحلالها هو ضمور المعنى أو اضمحلاله، إذا سلمنا أن القانون هو معنى الدولة، أو ماهيتها. إن "قانون الدولة" عندنا، في سورية، هو: كل شيء ممنوع وكل شيء مباح. ويا له من قانون. بموجب هذا "القانون"، جميع المواطنين مشتبه بهم ومدانون، ولا أمل في أن تثبت براءتهم، أو براءة أي منهم، وجميع ذوي الامتيازات أبرياء أنقياء، بل هم البراءة والنقاء وقد صارا ذوي امتيازات، ولا أمل في أن يتهم أي منهم أو يحاسب بموجب الدستور والقانون، مهما أوغل في الفساد والإفساد. فإن امتيازات أهل السلطة هي سلطة الامتيازات، وإن فساد أهل السلطة هو سلطة الفساد. وشتان بين سلطة الامتيازات والفساد وسلطة القانون، وشتان بين "قانون الدولة" هذا ودولة القانون.
بموجب قانون الدولة الذائع الصيت قضى رياض الترك سبعة عشر عاماً وسبعة أشهر معتقلاً، في زنزانة منفردة في فرع التحقيق التابع للمخابرات العسكرية بدمشق، لم ير نور الشمس إلا بعد مضي عشر سنوات، ولم ير فضاء الله إلا بعد مضي اثني عشر عاماً، وأفرج عنه، من دون أن توجه له أي تهمة، ومن دون أن يقدم إلى أي محكمة. وبموجب هذا القانون نفسه أعيد اعتقاله منذ أيام، دون اكتراث بحالته الصحية. وبموجب هذا القانون قضى عشرات الآلف من المواطنين السوريين، ومن العرب غير السوريين، بين معتقل وموقوف ورهينة، مدداً مختلفة في السجون يبلغ مجموعها عشرات آلاف السنوات، قدم بعضهم إلى ما يسمى "محكمة أمن الدولة" غير الدستورية والتي تفتقر لجميع أصول التقاضي، وحكم على بعضهم بالبراءة من دون أن يفرج عنهم إلا بعد حين. وما أكثر ما أنهى معتقلون "مدة حكمهم" ثم أوقفوا بأمر عرفي قبل إخلاء سبيلهم. ويتندر المعتقلون السياسيون الذين أفرج عنهم بقصة أحد زملائهم الذي برأته المحكمة المذكورة ثلاث مرات خلال خمسة عشر عاماً متتالية قضاها في السجن. ناهيكم عن التعذيب الجسدي والنفسي، وعمن قضوا نحبهم تحت التعذيب، وعمن قتلوا في السجون. وناهيكم عن ضروب التمييز بين المواطنين على أسس ما أنزل الله بها من سلطان.
ما أغفله الفكر السياسي عندنا، بقدر ما عندنا من فكر سياسي، هو علاقة التضامن والتكافل بين الاحتكار والفساد ونزع السياسة وتعليق الدستور وغياب القانون، أو التطبيق الكيفي والانتقائي والاستنسابي للقانون، وفرض حالة الطوارئ منذ نحو أربعة عقود. وبإغفاله هذه العلاقة أغفل حقيقة أن سيادة القانون هي قوام الوحدة الوطنية وضمانتها، وشرط الحرية ومظهر من مظاهر تجليها في الحياة العامة؛ فلم يتوقف عند ظاهرة الاعتقال السياسي والتوقيف التعسفي، وما نجم عنها من آثار اجتماعية وأخلاقية ونفسية انقسم المجتمع معها إلى جلادين بالفعل وبالقوة وإلى ضحايا بالفعل وبالقوة، وإلى نهابين بالفعل وبالقوة ومنهوبين بالفعل وبالقوة، وإلى مرتشين بالفعل وبالقوة وراشين بالفعل وبالقوة. وأكثر ما نخشاه أن يعاد إنتاج تلك الظاهرة المدمرة، ظاهرة الاعتقال السياسي والتوقيف التعسفي، بعد أن بدأت مرحلة جديدة من الانفراج النسبي، قبيل وبعد تسلم الرئيس بشار الأسد مهام منصبه.
إذا جاز أن نتحدث عن استقلال مجالات الحياة الاجتماعية، استقلالاً نسبياً بالتأكيد، ولا سيما مجال المجتمع المدني ومجال الدولة السياسية، يمكن القول: إن مجال المجتمع المدني هو مجال الحرية، مفهومة على أنها وعي الضرورة وموضوعية الإرادة وإمكانية الاختيار، ومجال الدولة السياسية هو مجال القانون. ومن ثم، فإن الحرية هي مبدأ القانون ومضمونه، مثلما المجتمع المدني هو مبدأ الدولة السياسية ومضمونها؛ وكلما نمت العناصر الديمقراطية في الدولة تغدو الدولة ملكوت الحرية وملبية لمطالب العقل.
القانون بصفته مبدأ وحدة المجتمع والدولة والسلطة والمعارضة،( وهي وحدة جدلية؛ جدلها الداخلي هو عامل نموها وتقدمها) هو الضمانة الفعلية الوحيدة لجميع الحقوق المدنية والحريات الأساسية؛ ذلك لأنه، في أصل منشئه، تسوية بين مصالح متعارضة ومتناقضة، ولا يكون كذلك حقاً إلا بقدر ما تتمكن جماعات المصالح من التعبير عن مصالحها بصيغة سياسية، تحت قبة البرلمان، وما لم تتحول تلك المصالح إلى تشريعات وقوانين، وذلكم هو المعنى العملي لتنظيم حياة الجماعة وتحديد علاقاتها الداخلية والخارجية. فهو من هذه الزاوية ماهية جميع التنظيمات والعلاقات الاجتماعية، وماهية الدولة وجوهرها. ومؤسسات الدولة هي هياكل وأشكال يؤلف القانون ماهيتها ويرقى بها إلى مستوى الكلية الاجتماعية فتستمد أهم صفاتها من وظائفها الاجتماعية، وليس لها سوى وظائف اجتماعية. فالحديث عن دولة المؤسسات لا يستقيم ولا معنى له إن لم يكن حديثاً عن دولة الحق والقانون.
إن أحد جذور الأزمة التي تعيشها البلاد، وأبرزها، هو الفوضى والعشوائية والارتجال والاعتباط والتسيب وانحلال عرى التنظيمات والعلاقات الاجتماعية والسياسية، وتهتك منظومة الأخلاق العامة، أو الأخلاق العملية، (وهذا كله نقيض القانون) وحلول الامتيازات محل القوانين، وحلول مبدأ الولاء الحزبي أو الشخصي محل مبدأ المواطنة ومحل مبدأ الكفاءة والجدارة والاستحقاق، وحلول المصالح الشخصية والخاصة محل المصلحة الوطنية العامة، ونزع الطابع الوطني، الجمهوري، العام، أي المجتمعي، عن الدولة ومؤسساتها، وطبعها جميعاً بطابع الحزب الواحد والرأي الواحد واللون الواحد، وإطلاق أيدي الأجهزة الأمنية في البلاد والعباد وبسط سلطتها على جميع مؤسسات الدولة وعلى جميع مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية حتى وسمت الدولة بميسمها وطبعتها بطابعها، فلم يخطئ من وصفها بالدولة الأمنية، "كل فرد فيها مدان وتحت الطلب". فضلاً عن الفساد والإفساد. وإن أصل هذه البلايا جميعاَ هو تغييب القانون والعمل بموجب حالة الطوارئ والأحكام العرفية التي فرضت على البلاد منذ الثامن من آذار عام 1963، ولا تزالا مفروضة إلى اليوم، بقوة الجيش وأجهزة الأمن، مما أخرج الشعب من عالم السياسية وألقى به في مهاوي العزوف واللامبالاة والإضراب المقنّع عن المشاركة في الشؤون العامة، وحوّل البلاد إلى "حارة كل مين إيدو إلو". وأنتج حالة من التخارج والتفاصل بين الدولة والمجتمع وبين السلطة والشعب، وحالة من الإقصاء المتبادل بين السلطة والمعارضة. ففي غياب القانون وتغييبه تتشكل العلاقات والبنى الاجتماعية وفق مبدأ الغلبة والقهر، وهو مبدأ ينطوي بداهة على التحاجز والتفاصل والعنف، بخلاف مبدأ التعاقد والتوافق والتواثق.
و "الاحتكار الفعّال للثروة والسلطة والقوة"، ولاسيما احتكار المجالين السياسي والثقافي، الذي وسم جميع الأنظمة الشمولية، هو أساس الفساد السياسي والإداري والاقتصادي والأخلاقي، وفساد التربية والتعليم والقضاء، وأساس تردي المستوى المعاشي لأكثرية الشعب وانقسام المجتمع إلى أقلية من الأثرياء وأكثرية من الفقراء والمعوزين، وأساس إهدار الحقوق والحريات، حتى في حدها الأدنى: حرية التفكير والتعبير. وما كان لهذا الاحتكار أن ينشأ في ظل سيادة القانون، وتمكن جميع فئات الشعب وفعالياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، على اختلاف مشاربها الفكرية والأيديولوجية، من المشاركة الفعلية في الحياة العامة بانتخاب ممثليها إلى "مجلس الشعب" بحرية واقتناع، على أساس حزبي ونسبي، في ظل قانون انتخاب ديمقراطي، عصري وحديث، وقانون أحزاب، وقانون ديمقراطي للإعلام يضمن حرية التعبير والنشر والتداول. وفي ظل فصل السلطات واستقلال كل منها عن الأخريات استقلالاً نسبياً هو قوام وحدتها واتساق أدائها. وفي ظل استقلال النقابات والاتحادات والمنظمات الشعبية عن السلطة التنفيذية من جهة وعن الأحزاب السياسية من جهة أخرى، أي في ظل حياة مدنية قوامها القانون.
لذلك كله، كنت ولا أزال أعتقد أن الدفاع عن القانون مدخل ضروري للدفاع عن الوطن وصون حريته واستقلاله وتعزيز قوته ومنعته، ومدخل ضروري للدفاع عن وحدة المجتمع، وإعادة بناء العلاقة بين المجتمع والدولة، وبين السلطة والشعب بوجه عام، وبين السلطة والمعارضة بوجه خاص، على أساس اعتراف كل منهما بالآخر اعترافاً مبدئياً ونهائياً. وإفساح المجال أمام جميع قوى المجتمع للتعبير عن مصالحها بما يجعل من كل منها قوة ضغط اجتماعية وثقافية وأخلاقية على الذين ينتهكون قوانين البلاد ويعبثون بوحدة المجتمع ويهدرون مبدأ سيادة الشعب، متوسلة بجميع الوسائل المدنية السلمية والديمقراطية التي يقرها القانون ويضمنها الدستور. وليس لمن يدعون إلى الإصلاح ومكافحة الفساد من ظهير سوى القانون والدستور موضوعين موضع القانون. ففي ظل "قانون الدولة" يصير الشعب شعب الدولة، وفي ظل دولة القانون تصير الدولة دولة الشعب. فهل ما يزال بعيداً ذلك اليوم الذي سينظر فيه مواطنونا إلى القانون على أنه انتصار على الجهل والهوى؟