الرواية المغربية ورهاناتها(*)
عبد العالي بوطيب
قبل الشروع في سرد تفاصيل هذا الموضوع، لا بد من إبداء بعض الملاحظات النظرية العامة، تعد بمثابة أرضية ضرورية لفهم دلالة الرهان (أو الرهانات) في علاقته الجدلية الوطيدة بمختلف مجالات العمل من جهة، وتحديد العوامل الفاعلة في ضبط طبيعته الكمية والنوعية من جهة أخرى. مما سيساهم، إلى حد كبير، في كشف أبعاد الإشكال المطروح، وتيسير إدراكه. من ذلك مثلا:
1 – أن لكل عمل هادف رهانا (أو رهانات) محددا، قد يختلف من حالة لأخرى، لكنه يظل دائما حاضرا، بشكل من الأشكال، يحدد توجهه، ويصونه من مخاطر الزوغان عن المسار المرسوم. فالرهان، بهذا المعنى، يعتبر بمثابة الغاية الضابطة لملامح العمل، والمحددة، في الوقت ذاته، لقيمته، منها يستمد مشروعيته، وبها تقاس أهميته وجسامته(*). وهو ما يعني بعبارة أخرى أن العلاقة بينهما علاقة على بمعلول، أو هكذا ينبغي أن تكون، ضمانا للانسجام المطلوب لنجاح كل مشروع. لذلك نعتقد أن الحديث عن أي ممارسة، كيفما كانت طبيعتها، لا يستقيم، علميا على الأقل، دون تحديد رهاناتها، وتقدير مردوديتها المحتملة(*).
فإذا ما اعتبرنا الكتابة الروائية المغربية، تعبيرا إبداعيا عن رهانات ضمنية مختلفة، باختلاف شروط تحققها، الحضارية والثقافية، العامة والخاصة، المشكلة لأهم مراحل تاريخ هذه الممارسة بالمغرب. أمكننا الجزم، دون مجازفة، بأن الفهم الدقيق لأبرز التحولات، الفكرية والفنية، التي مر، ويمر، بها مشهدنا الروائي من البداية إلى اليوم، يتوقف، في جزء كبير منه، على عمق معرفتنا برهاناته. نظرا للعلاقة الوثيقة القائمة بينهما.
2 – أن الرهان، كمعطى تاريخي، له قيمة نسبية، مرتبطة بحيثيات عديدة ومختلفة، يستوجب التحيين الدائم، تعديلا وتغييرا، كلما تطلب الأمر ذلك، ضمانا لحيوية المشروع، وحماية له من خطر السقوط في آفتي الجمود والتكرار. لذلك فالحديث عن رهان (أو رهانات) محدد ونهائي يعد أمرا مستحيلا، يتنافى والطبيعة التاريخية لموضوع، على درجة عالية من التعقيد، كالرواية المغربية مثلا.
3 – ارتباطا بالملاحظة السابقة، وتأسيسا عليها. يتضح أن الرهان، وإن بدا ظاهريا بسيطا، وعلى علاقة أحادية مباشرة بمشروعه، فإن باطنه يكشف، عكس ذلك، عن طبيعة معقدة، يتقاطع فيها، بالإضافة لما سبق، عناصر أخرى عديدة ومختلفة، تتوزع بين الموضوعي والذاتي، العام والخاص، الثقافي والسياسي.. إلى غير ذلك من العناصر التي يتطلب الكشف عنها دراسة فاحصة تلم بالرهان (أو الرهانات) وحيثياته من جميع الجوانب.
ولإعطاء صورة تقريبية عن حجم التأثير غير المباشر لبعض العوامل الخارجية البعيدة في تحديد الرهان، وضبط مواصفاته، الكمية والكيفية، يكفي التذكير، على سبيل المثال لا الحصر، بالدور الهام الذي يلعبه عامل الزمن، بمفهومه الواسع، في تغيير بعض رهانات المشاريع الطويلة الأمد، لدرجة نصبح معها أمام رهانات عديدة ومختلفة، باختلاف مراحل المشروع، في علاقتها بنتائجه المحققة والمرتقبة على السواء. وإن كان هذا لا يمنع أحيانا من تزامن وتعايش بعض الرهانات المختلفة في مرحلة تاريخية واحدة، خصوصا إذا ما كان المشروع عاما ومشتركا، كالرواية المغربية مثلا، يتقاسمه فاعلون مختلفون، ينفرد كل واحد منهم بتحديد رهاناته الخاصة، ضمن الإطار العام، وفق ما يتلاءم وشروطه المعرفية الشخصية.
إذا أضفنا لهذا كله التأثير الكبير لبعض المعطيات العامة، السياسية والفكرية، القومية والدولية. أمكننا تقدير حجم تشابك الموضوع، وصعوبة تناوله.
4 – أن الحديث عن الرهانات لا ينحصر دائما في المقاصد الواعية المباشرة، صريحة كانت أو ضمنية، بل يشمل كذلك المقاصد غير المباشرة المنفلتة من رقابة الذات، والمشكلة بجانب الأخرى، لخصوصية المشروع في إطاره العام الشامل. وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن المتن المعتمد في استخلاص رهانات الرواية المغربية، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يقتصر على نصوص الروائيين الموازية (شهادات، حوارات، مقدمات شخصية..إلخ) وحدها، بل يجب أن يمتد أساسا لنصوصهم الإبداعية أيضا. لا باعتبارها المنفذ الطبيعي لاختبار مصداقية النوايا المعبر عنها صراحة في النصوص السابقة فقط، وإنما لكونها المجال الأوحد لاستخلاص الرهانات المضمرة أيضا. مما يكسب الدراسة طابعا منهجيا استقرائيا شاملا يمكنها من تجاوز العديد من الصعوبات، كما يضفي على نتائجها، في الوقت ذاته، الكثير من الموضوعية. وهو ما يتطلب في تقديري وقتا وجهدا أطولين مما تسمح بهما المناسبة. لذلك اخترنا الاكتفاء بالتلميحات العامة، بدل الفحص التفصيلي الدقيق، مراهنين على ذكاء القارئ وفطنته في تعميقها واستحضار النماذج الروائية المناسبة لها.
5 – الملاحظة النظرية الخامسة والأخيرة، تخص المشاريع المشتركة، كالرواية المغربية، حيث يتحول المجال الواحد لفضاء جامع، يحوي مشاريع فرعية عديدة، تصب كلها في المشروع العام، بهدف تحقيق ما أسميه بالرهانات المشتركة الكبرى، المرتبطة بالشرط التاريخي العام المؤطر للمشروع، محليا، جهويا، وربما دوليا أيضا. لكن هذا لا يمنع، في تقديري، من وجود رهانات صغرى فردية مرتبطة بالمعطيات، الفكرية والفنية، الخاصة بمختلف المساهمين، وتصوراتهم الشخصية لكيفية بلورة الرهانات العامة الكبرى. مما يضفي عليها طابعا فسيفسائيا متميزا. يستدعي معالجة خاصة، تقيم فصلا مبدئيا بين الرهانات العامة والخاصة، الكبرى والصغرى، بهدف الوقوف على مختلف التلوينات الداخلية للمشروع ككل.
على ضوء الملاحظات النظرية التمهيدية السابقة، وتأسيسا عليها، نقترح تقسيم دراستنا منهجيا لجزأين مختلفين ومتكاملين:
الأول: خاص بالرواية المغربية نعرض فيه جردا تفصيليا لأبرز التقلبات، الفنية والفكرية، التي طبعت مسار هذه الممارسة الإبداعية وطنيا من البداية إلى اليوم. مع التركيز على الأسباب الفاعلة بشكل أو بآخر في تطويرها. جرد نعتبره بمثابة أرضية معرفية صلبة ضرورية لفهم واستيعاب خلفيات محتوى الجزء الثاني المتعلق بمختلف الرهانات، العامة والخاصة، التيماتية والفنية، التي طرحها الروائيون المغاربة، فرديا و/أو جماعيا، في كل مرحلة من مراحل تاريخ هذه الكتابة على الصعيد الوطني.
أ – الرواية المغربية:
قبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع الهام والشائك، لا بد من تقديم بعض الإيضاحات الضروري من باب الاحتياط، تفاديا لكل لبس من شأنه الإساءة لطبيعة هذه الدراسة، موضوعا أو منهجا، منها:
أولا: أن هذه الدراسة تروم تقديم جرد تاريخي عام لأهم وأبرز المحطات والتحولات التي مرت بها الكتابة الروائية المغربية من البداية إلى الآن. وهو ما يعني بعبارة أخرى هيمنة الطابع التوثيقي على التحليلي، باستثناء حالات خاصة تستدعي ذلك.
ثانيا: أنها ستنصب، بحكم طبيعتها، على دراسة مختلف الظواهر العامة البارزة في هذه المسيرة، شكلية كانت أم فكرية، غير غافلة عما يمكن أن يتولد عن ذلك من ضياع اضطراري لبعض الاستثناءات والخصوصيات المتأبية، بحكم طبيعتها، على الملاحقة والمتابعة خارج الدراسة النصية المحايثة الدقيقة، مما لا يسمح به المقام حاليا.
ثالثا: أننا حصرنا نطاقها في دائرة الرواية المغربية المكتوبة بالعربية وحدها، دون شقيقتها المفرنسة، رغم معرفتنا الدقيقة بالصعوبات الكبيرة التي يطرحها مثل هذا الإجراء، بالنظر للعلاقات الوطيدة القائمة أحيانا بينهما.
رابعا: أننا اعتمدنا المعيار التحقيبي للفصل إجرائيا بين مختلف مراحل مسيرة الكتابة الروائية بالمغرب، رغم ما قد يحدثه مثل هذا التقسيم التعسفي أحيانا من سلبيات، متولدة أساسا عن الربط الآلي بين ما هو تاريخي وما هو أدبي. لهذا وجب التنبيه مبدئيا إلى أن هذا الإجراء، ما هو إلا خطوة منهجية استوجبتها الطبيعة التاريخية للدراسة ليس إلا، ومن ثم فإن الحدود الزمنية الموضوعية لها لا توقف، بأي شكل من الأشكال، استمرار حضور بعض خاصيات مرحلة معينة في أخرى، كما سنلاحظ ذلك لاحقا.
خامسا وأخيرا: أننا قسمنا عرضنا هذا لثلاث مراحل أساسية، تغطي كل واحدة منها فترة متميزة من تاريخ الرواية المغربية، وأطلقنا علينا اسما يناسب السمة البارزة فيها. وهذه المراحل هي:
1 – المرحلة التأسيسية: وتمتد زمنيا من تاريخ صدور أول عمل روائي إلى منتصف الستينيات، وبالضبط إلى سنة 1967، تاريخ صدور رواية (جيل الظمأ) لمحمد عزيز الحبابي. وأسميناها بالتأسيسية، لأن مجمل الأعمال المنضوية تحتها، وعددها تقريبا حوالي(28) عملا، يطغى عليها هاجس إرساء قواعد ممارسة روائية مغربية، تسد خصاص الموروث الثقافي العربي في هذا المجال، وتحاول محو آثاره المعرفية السلبية. على أنه إذا كان هناك شبه إجماع حول تاريخ نهاية هذه المرحلة، فإن بدايتها ظلت، مع ذلك، محط خلاف قوي بين الباحثين إلى اليوم. فمنهم من أرجعها لسنة 1957، تاريخ صدور (في الطفولة)(*) لعبد المجيد بنجلون، ومنهم من ذهب لما هو أبعد وربطها بتاريخ صدور (الزاوية)(*) للتهامي الوزاني سنة 1942، أو (الرحلة المراكشية)(*) لابن المؤقت سنة 1924.
ومهما يكن من أمر، فالمؤكد أن ظهور الرواية العربية بالمغرب عرف تأخرا ملحزظا مقارنة بتاريخي ظهورها في الشرق والغرب، وهو ما يعني، بعابرة أخرى، أنه تأخر مضاعف، جعل من الأعمال الروائية الشرقية والغربية نماذج تحتدى: (بالنسبة للرواية المغربية تبدو الورطة أكبر، ما دامت تمثل العطب المزدوج، عطبها الخاص المتعلق بنشأتها، وعطب تقليدها للرواية المشرقية التي قلدت بدورها رواية الغرب، المبدع الحقيقي، بلا منازع، للرواية العصرية). وضع غريب يثير أكثر من علامة استفهام، خصوصا مع عجز المعطيات السوسيوثقافية للمرحلة التاريخية المذكورة، عن تقديم أجوبة شافية لها، ما دام وزنها ينحصر في تفسير الشأن المحلي القطري، ولا يتعداه لتقديم تبرير موضوعي مقنع يزيح الستار عن سر تأخر ظهور الرواية العربية ككل مقارنة بالرواية الغربية. وأدى، بالتالي، لاعتبار الكتابة الروائية، كالدرامية، جنسا إبداعيا دخيلا ومستحدثا في المؤسسة الأدبية العربية، خلافا للشعر/ديوان العرب: (لا يختلف اثنان في أن الرواية العربية نشأت في العصر الحديث فنا مقتبسا من الغرب، أو متأثرا به تأثرا شديدا). وضع تتطلب الإجابة عنه، بالضرورة، توسيع دائرة البحث لتشمل طبيعة الرواية كجنس أدبي ارتبط، دائما وأبدا، في أذهان الباحثين، على اختلاف عصورهم وتوجهاتهم، بشروط مرحلة تاريخية محددة، تتجاوز نطاق المعطيات الظرفية المحلية الخاصة بالغرب أو الشرق على حد سواء. كما يؤكد ذلك كولدمان: (يبدو أن الشكل الروائي هو بالفعل تحويل على المستوى الأدبي للحياة اليومية في المجتمع الفرداني المتولد عن الإنتاج من أجل السوق). وهو ما يدعو للاعتقاد بأن تأخر ظهور الرواية العربية عموما، مغربية كانت أو مشرقية، أمر طبيعي يجد تبريره في تخلف الشروط التاريخية الملائمة، ويؤكده الغياب الفعلي الرواية في التراث القومي، رغم ما يذهب إليه البعض من توفره على أشكال (ما قبل روائية)(*). لهذا كان طبيعيا أن تتصف أغلب أعمال هذه المرحلة، بما أسماه أحد النقاد بـ(الإذقاع الفني.. والمحاكاة الحرفية لبعض النماذج المشرقية المتجاوزة). كما هو الحال بالنسبة (لأمطار الرحمة) لعبد الرحمان المريني، و(غدا تتبدل الأرض) لفاطمة الراوي، و(بوتقة الحياة) للبكري السباعي، و(إنها الحياة) لمحمد البوعناني. مما جعل الذاكرة الثقافية الوطنية تسقط من مخزونها أغلب أعمال هذه المرحلة، باستثناء عناوين خمسة، نسوقها حسب ترتيبها الكرونولوجي، وهي:
ـ (الزاوية) للتهامي الوزاني (1942).
ـ (في الطفولة) لعبد المجيد بنجلون (1957).
ـ (سبعة أبواب) لعبد الكريم غلاب (1965).
ـ (دفنا الماضي) لعبد الكريم غلاب (1966).
ـ و(جيل الظمأ) لمحمد عزيز الحبابي (1967).
باعتبارها أعمالا لا تمتلك قيمة فنية تمثيلية كبيرة، تؤهلها لإعطاء صورة عامة وواضحة عن ملامح الكتابة الروائية المغربية آنذاك. فماذا عن هذه الملامح؟
بعودتنا لهذه الأعمال وتفحصها، في محاولة لاستخلاص القاسم (أو القواسم) الفنية والفكرية المشتركة بينها. نلاحظ ما يلي:
أولا – امتزاج الروائي بالسير ذاتي: لعل أبرز ما يشد انتباه الباحث في أعمال هذه المرحلة التأسيسية الهامة، من مراحل الكتابة الروائية المغربية، وربما في غيرها أيضا، طغيان ظاهرة امتزاج الروائي بالسير ذاتي، بحيث لا يكاد يخلو عمل من الأعمال الخمسة السابقة من بعض آثار هذا المكون الخاص على المستوى الحكائي، وما موضوع (في الطفولة) و(سبعة أبواب) إلا دليلا على ذلك: (الواقع أن معظم الروايات المغربية، وعلى الخصوص روايات البدايات، هي روايات سير ذاتية بشكل أو بآخر، حيث غالبا ما ينهل كاتبها من تجربته، محاولا الاستفادة من ماضيه كما هو، أو محورا بصياغة فنية، تختلف من كاتب لآخر).
ظاهرة تستدعي البحث عن الأسباب الثاوية خلفها لمعرفة ما إذا كانت مؤشرا على ما يطبع البدايات عادة من خلط أجناسي، ينم عن سوء فهم لخصوصية الكتابة الروائية، أم إفرازا موضوعيا يرتبط بمعطيات المرحلة التاريخية المذكورة. علما بأنها ظاهرة عامة تتجاوز نطاق ما هو وطني محلي، لتطال البدايات الروائية الشرقية والغربية على حد سواء: (اتخاذ السيرة الذاتية شكلا للتعبير عن الذات وعلاقتها بالمجتمع، ليس ظاهرة قاصرة علينا، فنحن نجدها واضحة وقوية في الإنتاج المصري خلال العشرينات الأولى)، بدليل (زينب) لهيكل، و(الأيام) لطه حسين، و(حياتي) لأحمد أمين، وغيرها. وهو ما يؤشر على تماثل كبير في شروط وملابسات البدايات الروائية في المركز (الغرب والشرق) والمحيط (المغرب). ويستوجب، بالتالي، البحث عن أسباب ذلك فيما هو عام مشترك، لا فيما هو خاص فردي. وأغلب الظن أن معرفة عميقة بالخصوصيات الإبداعية لهذا الجنس الأدبي في ارتباطه بالسياق السوسيو ثقافي العام ستفيد حتما في كشف العديد من أسرار هذا الوضع المثير: (الواقع أن رواج النوع الروائي كان على حد سواء نتيجة تأثير فني وعلامة لذاتية متحررة بغتة، لذلك فقد عرفت الرواية شكلا واحدا هو شكل السيرة الذاتية، إلى حد أن الرواية الفنية ظلت خلال زمن طويل مرادفا لرواية السيرة الذاتية)، مما يسمح باستنتاج أن بداية الكتابة الروائية المغربية كانت محكومة تاريخيا بما يمكن نعته بتضخم الأنا، لدرجة لم يجد معها الروائيون آنذاك بدا من تجربتهم الشخصية موضوعا أساسيا للحكي: (في مرحلة أحس خلالها المتعلمون والمثقفون بأهميتهم، فراحوا يستكشفون ذواتهم، ويعكفون على تفسير أناهم المتضخمة، وعلى تحديد العلاقة بينهم وبين مجتمعهم المتحرك في اتجاه واحد.
ثانيا – حضور الآخر: الخاصية الثانية المميزة لأعمال هذه المرحلة تتمثل في حضور الآخر/الغرب، ولو بأشكال مختلفة، كطرف أساسي فاعل في معادلة الصراع الحكائي، كما يجسد ذلك، بشكل صارخ، مضمون سيرة عبد المجيد بنجلون (في الطفولة): (ففيها يتحدث الكاتب بضمير المتكلم عن طفولته، هادفا إلى إرضاء رغبة نفسية في تسجيل ذكرياته الحبيبة كطفل عاش في بيئتين متناقضتين: أنجلترا والمغرب)، حضور يجد سنده الموضوعي في الخصوصية التاريخية لهذه المرحلة المعروفة وطنيا وقوميا بكثرة المصادمات الحضارية وتنوع مظاهرها (الاستعمار، المطالبة بالاستقلال، التحدي الحضاري، والمثاقفة). وهو ما يفسر، في الوقت ذاته، الحضور القوي لهذه التيمة الحكائية في الكتابات الروائية المشرقية أيضا: (فالتساؤل عن علاقة الأنا-العربي – بالآخر – الغربي – تكاد تتلاحق بمستويات مختلفة منذ –عصفور من الشرق- إلى –قنديل أم هامش- إلى –الحي اللاتيني- ف –موسم الهجرة إلى الشمال- كأنضج وعي يطرح أنا –التحدي- في مقابل أن –الانبهار- التي عبرت عنها الروايات السابقة).
ثالثا – اعتماد قواعد الكتابة الكلاسيكية: أما على المستوى التقني المجسد لملامح الكتابة الروائية في هذه المرحلة فالملاحظ أن أغلبها يستمد رصيده من مقومات الرواية الكلاسيكية، المعروفة بهيمنة الحكياة، والاهتمام الكلي بالحبكة الروائية، بالإضافة للمحافظة المطلقة على خطية السرد، واعتماد السارد الكلي المعرفة، فضلا عن كثافة التدخلات المباشرة: (إن هذا البناء.. يقوم على الحكاية، والزمن الواحد المسلسل، والراوي التقليدي المطلع والعارف بكل شيء، والتعليمات المباشرة والوعظ والخطابية، وتدخل المؤلف بالتعليق على الأحداث والشرح..)، مما يعد أمرا طبيعيا في هذه المرحلة المبكرة، نظرا لحداثة الجنس الروائي من جهة، وجسامة المسؤولية الأدبية الملقاة على كاهل هؤلاء الرواد، في غياب تقاليد روائية قومية، من جهة ثانية. لهذا نعتقد أن مثل هذه المآخذ لن تنال، بأي حال من الأحوال، من القيمة التاريخية الكبيرة لهذه الأعمال.
2 – المرحلة الواقعية: وتمتد زمنيا من نهاية المرحلة السابقة إلى منتصف السبعينات تقريبا، وتتميز من الناحية السياسية بحصول المغرب على الاستقلال سنة (1956)، ودخوله مرحلة الجهاد الأكبر لمحو آثار التخلف والاستعمار. خصوصا بعد الآمال الوردية العريضة التي علقها المغاربة على هذا الحدث السياسي الهام طوال مرحلة الجهاد الأصغر. لدرجة أصبح معها معادلا موضوعيا لبلورة كافة الأهداف التنموية الأخرى: (فاجأني على الخصوص تطرف بعض المواطنين في تأويلاتهم الطوباوية للعهد الجديد، وكان لسان حالهم يقول: -لقد حصلنا على الاستقلال.. يكفي الآن أن ندير خاتم سليمان-). آمال ظل معظمها، للأسف الشديد معلقا، أو في حكم المعلق، بفعل معطيات تاريخية عديدة ومتشابكة. مما انعكس في شكل إحباط كبير أصاب نفوس الجماهير الشعبية العريضة. إحباط بدأوا يشعرون معه وكأنهم استغلوا: (حين قاتلوا من أجل قضية ربحها غيرهم). فاحتدم الصراع المغربي/المغربي، بين الفئات المستفيدة من الوضع الجديد والفئات المحرومة، خصوصا بعد انتهاء شروط التحالف الاستراتيجي المرحلي السابق ضد المستعمر الأجنبي، وظهور الخلافات المجمدة سابقا على السطح من جديد: (إذا كان شعار –الاستقلال- هو العنوان الذي شخص متطلبات تلك الفترة، فإن الأمور اتخذت مجرى آخر عقب ذلك، جعل التحالف المؤقت –التكتيكي- يسفر عن الاختيارات الحقيقية لكل طبقة على حدة، تلك الاختيارات التي جسمتها عمليا المواقف المختلفة إزاء العديد من القضايا الأساسية ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية).
إذا أضفنا لذلك كله، الآثار السلبية الفادحة لهزيمة(1967) النكراء، وما أحدثته من رجة فكرية ونفسية عنيفة في كيان جميع الشعوب العربية، في ظل ظرفية تاريخية مشحونة بصراع إيديولوجي قوي بين المعسكرين المهيمنين على الساحة الدولية آنذاك. أمكننا فهم سر اعتماد هذا التاريخ نقطة تحول جذري في مسار الكتابة الأدبية المغربية عامة، والروائية منها على الخصوص. وما التوتر الحاد الذي طبع المؤسسة الثقافية الوطنية في تلك المرحلة إلا دليلا صارخا على ذلك: (يمكن القول، إذن، إن الإنجازات التي طالعتنا منذ بداية الستينات، تعتبر تمثيلا فنيا للقوى الاجتماعية في صراع يحتد تارة ويخبو أخرى. فالتناقضات التي أذكت ذلك الصراع على المستوى السياسي خاصة، كان لها انعكاس بماشر في الحقل الأدبي والفكري). وفي هذا الإطار يكفي التذكير ببعض المفاهيم –النقدية- المهيمنة على الساحة الثقافية آنذاك، (كالصراع الطبقي/الالتزام/المثقف العضوي/ اليمين/ اليسار/ التقدمي/ الرجعي/الثقافة التقليدية/والثقافة الثورية)، لأخذ فكرة واضحة عن طبيعة هذه المرحلة. وهو ما انعكس على الكتابة الروائية المغربية، التي وجدت ضالتها المنشودة في –الواقعية-، باعتبارها الاتجاه الإبداعي الملائم الكفيل بتحقيق الرهانات التاريخية المطروحة، كما تعكس ذلك بجلاء أعمال كل من محمد زفزاف، عبد الكريم غلاب، مبارك ربيع، ومحمد شكري. لقد (توجه الكتاب الجدد إلى موضوعات مجتمعهم الجديد، واستأثرت قضايا مرحلتهم التاريخية باهتمامهم، فعبروا عن فكر الطبقة الشعبية وإيديولوجيتها، وصوروا الجهل والفقر والمرض والتخلف والفساد، كما رصدوا مظاهر التجديد في الحياة الاجتماعية وآزروها).
وقد تميزت هذه الأعمال من الناحية الفنية والفكرية، مع اختلاف في الدرجات طبعا، بطغيان مجموعة من السمات، نجملها فيما يلي:
• تكريس هيمنة السياسي على الثقافي
• إعلاء الجوانب الفكرية على الفنية.
• إعطاء الأولوية لوظيفة الأدب على حساب طبيعته.
• اعتبار الاجتهادات الفنية مجرد محاولات إبداعية شكلية فجة.
• حضور بعض القضايا القومية (كقضية فلسطين مثلا).
• حضور التاريخ المغربي الحديث والمعاصر كتيمة روائية بارزة.
• الحضور المكثف لبعض الظواهر الاجتماعية التي تمس الفئات المحرومة.
• ظهور البطل الإشكالي.
• إسناد البطولة لمثقفي البورجوازية الصغيرة والمتوسطة.
• استخدام اللغة البسيطة الخالية تقريبا من كل ملامح البيان العربي الكلاسيكي.
• اعتماد الشروط الموضوعية في تحريك الأحدث الروائية، واستبعاد الصدف والمفاجآت المعمول بها سابق.
كل هذا طبعا إلى جانب استمرار حضور موضوعي السيرة الذاتية والغرب، ولو بدرجة أقل، مما يدعم ملاحظتنا السابقة بخصوص رفض الأدب، القوي، الخضوع لدقة وصرامة التحقيب السياسي والتاريخي. وأن اعتماد هذا الإجراء لا يعدو أن يكون مجرد خطوة عملية تستهدف التحكم في مجريات الدراسة، لا أقل ولا أكثر.
على أنه إذا كانت السمات السابقة تعكس، بصدق وأمانة، أبرز ملامح الوضع الاجتماعي والسياسي لتلك المرحلة، فمما لا شك فيه أيضا أن هذا الوضع كانت له سلبيات كثيرة على مسار الحركة الروائية المغربية يصعب تجاهلها. لعل أخطرها تكمن في إعاقته تطور الجوانب الفنية في موازاة الجوانب الفكرية. والحيلولة، بالتالي، دون تحقيق تطور أصيل ومتوازن لهذا الجنس الإبداعي المستحدث في التربة الوطنية، كما لاحظ ذلك بعض النقاد: (إن الذين كانوا يدرسون في كل مناسبة سوسيولوجية المضمون، لم يفكروا لحظة واحدة في رسم –ولو أولي- سوسيولوجية الشكل). وبذلك ظلت الممارسة الروائية المغربية، والعربية عامة، تعاني من تبعات ولادتها القسرية، في شكل تمزق مأساوي فظيع، بين شكل روائي غربي ومضمون حكائي عربي. ف(كيف يستطيع الروائي العربي أن يدفع في شكل مستورد محتواه أو فضاءه المحلي أو الخصوصي، والحال أن الشكل الأوروبي ليس نسجا خارجيا، أو مجرد رداء فضفاض يسع كل مجال)، خصوصا وأن جهودنا في المرحلة التأسيسية السابقة، لم تتجاوز مهمة ملء الخانة الروائية الفارغة في التراث العربي القديم، عن طريق تقليد النماذج الغربية. انهمكنا بعدها في معمعمة الصراع الإيديولوجي المحموم، معتمدين نفس الأشكال والتقنيات التعبيرية المستعارة السابقة، فأضعنا بذلك فرصة تأصيل الكتابة الروائية، وإيجاد أشكال سردية ملائمة لواقعنا المغربي، وخصوصياته الثقافية والحضارية إلى ما بعد منتصف السبعينيات، تاريخ بداية المرحلة الثالثة والأخيرة. فهل سيتحقق حلم الروائيين المغاربة في بلوغ سن الرشد الإبداعي، كما يطالب بذلك البعض: (لعل السؤال الذي يطرح نفسه هو. متى الرشد؟ متى نصبح نحن كتاب الرواية العرب، مبدعين ذاتيين، نعطي شيئا جديدا متأثرين بأنفسنا، بعبقريتنا، بتجربتنا، لا صدى لغيرنا، نرقص كبهلوانيين إذا رقص الغير-المسبا-، ونعود إلى _الفالس- إذا عاد إليه الغير؟). ذاك ما سنحاول معرفته فيما يلي:
3 – مرحلة التجريب: وتتميز على الصعيد السياسي بالعديد من الأحداث الهامة، الداخلية منها والخارجية. كان لها الوقع الكبير في تغيير مسار الأدب والفكر المغربيين، بعيدا عما كانا عليه في السابق. فعلى المستوى الداخلي تزامنت بداية هذه المرحلة وحدث المسيرة الخضراء سنة (1975)، لتحرير الصحراء، واستعادة الأقاليم الجنوبية المغتصبة من طرف الاستعمار الإسباني. حدث ساهم، باعتراف الجميع، إلى حد كبير في تحقيق المصالحة الوطنية، واستعادة الأمة المغربية لصالبتها المعهودة في مواجهة المخاطر الخارجية. مما مهد الطريق واسعا أمام مسلسل الإصلاحات الديموقراطية، لتدشين ما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية بمغرب العهد الجديد. عهد اتسم بحصول توافق وطني عام حول مجموعة من المبادئ الأساسية لدخول عهد التناوب، وتحقيق الإصلاحات الدستورية والتشريعية المستعجلة لإخراج البلاد من الأزمة الخانقة التي وصلتها في ظل السياسات اللاشعبية السابقة، وما أفرزته من اختلالات اجتماعية واقتصادية خطيرة.
أما على المستوى الخارجي، فقد شهدت هذه المرحلة بداية انهيار المعسكر الشرقي، بكل ما يحمله ذلك من دلالات عميقة على فشل الإيديولوجية الاشتراكية في تحقيق الآمال العريضة المعلقة عليها في معظم أرجاء المعمور. كما عرفت أيضا تطورات معرفية كبيرة همت مختلف حقول الدراسة الأدبية، خصوصا بعد الثورة اللسانية وما رافقها من اهتمام، غير مسبوق، بالجوانب الفنية للنصوص، بعيدا عن كل الاعتبارات الخارجية الغريبة عن حقل أدبية الأدب، كما أوضح ذلك ياكبسون: (إن موضوع علم الأدب ليس هو الأدب، وإنما الأدبية، أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا). وهنا لا بد من الإشادة بالدور الهام الذي لعبته الجامعة المغربية في أشاعة المفاهيم النقدية الحديثة، وتقريبها من عموم المثقفين، عن طريق الترجمة المباشرة من المصادر الغربية، دونما حاجة للوساطة المشرقية، كما كان الأمر سابقا.
في ظل هذه الشروط السوسيوثقافية وغيرها، ظهرت على السطح تصورات أدبية جديدة تدعو، من بين ما تدعو إليه، تحديث الكتابة الروائية العربية، عن طريق تجاوز القوالب التعبيرية –القديمة المتهالكة- واستبدالها بأساليب جديدة أخرى، أكثر ملاءمة للوضع الثقافي الراهن: (لأن استمرار هذه الرؤية في ظل ظروف مستجدة أمر يسقط الأدب في متاهة الاجترار والتكرار. إذ لكل مرحلة حضارية قضاياها ومشكلاتها الخاصة بها، التي تتطلب رؤى فكرية وفنية مستجدة. مما يجعل الرؤية التقليدية تبدو شائخة وغير معبرة عن روح الجيل الجديد وآماله. وهذا لا يعني بالطبع نكران إنجازاتها، ولكنه يعني أن هذه الإنجازات والتقاليد أصبحت تراثا ينبغي تجاوزه استجابة لهدير الحياة الجديدة). وهو ما أدى لقيام ما أصبح يعرف آنذاك، وإلى اليوم، بظاهرة التجريب، بكل رهاناتها الإبداعية الهادفة للبحث عن أنسب التقنيات السردية الكفيلة بإعادة الانسجام والتوازن المفقودين للكتابة الروائية المغربية في خضم النزاعات الإيديولوجية السابقة، وما رافقها من إهمال خطير للجوانب الفنية، أدى لتعطيل رهان التأصيل وتأجيله إلى حين. ما دام: (التجريب المستمر.. هو ما يهب الكتابة شرعيتها وتبريرها، وإلا فلا حاجة لنا بهؤلاء –الرواة-، وليس –الروائيين-، الذين ربما كان أفضل لهم لو اصطنعوا لهم منابر خطابية، ومارسوا التوجيه الأخلاقي، أو الاجتماعي، أو السياسي. لأن الرواية هي خطاب من العالم، وفي العالم).
ويمكن تلخيص أهم مرتكزات هذه الدعوة فيما يلي:
• تجاوز عن الأنماط الروائية السائدة
• تجاوز تقنيات الحكي الكلاسيكي
• تكسير خطية السرد
• تنويع الرؤى السردية، وهدم سيطرة السارد العالم بكل شيء
• استغلال التراث
• اعتماد البعد العجائبي
• الحد من أهمية الحكاية
• تفجير اللغة
• تكسير الحدود بين الأجناس والحد من هيمن معيار صفائها المزعوم. إلى غير ذلك من الآليات التعبيرية الأخرى الهادفة لتكسير القوالب القديمة، وتوسيع هامش تحرك القارئ للسماهمة بفعالية أكثر في إغناء الممارسة الروائية والدفع بها نحو آفاق أرحب، كما صرح بذلك أحد الروائيين قائلا: (أنا أكتب رواية القارئ/الكاتب. أي القارئ الذي لا يقرأ لينام. فأنا لم أستطع، لحد الساعة، أن أفهم كيف يفتح المرء كتابا لينام. فهذه قمة العبث. أكبر إهانة للكاتب والكتاب). وما أعمال كل من برادة، المديني، التازي، حميش، شغموم، وآخرين، سوى نماذج لذلك.
وبالمناسبة تجدر الإشارة إلى أنه رغم الحماس الكبير الذي واكب هذه الدعوة من البداية إلى اليوم، فإنها ما زالت مع ذلك تواجه بعض الانتقادات، تحول دون تحقيق الإجماع المنتظر حولها. مما يفسر استمرار تشبث بعض الروائيين المغاربة الكبار باتجاههم الواقعي، (غلاب، زفزاف، ربيع، وشكري..). موقف يمكن إرجاعه لأسباب عديدة، نذكر منها، على سبيلا المثال لا الحصر:
1 – الاضطراب الواضح في تحديد مفهوم التجريب، لدرجة تبعث على الاعتقاد بأن لا شيء يوحد بين أنصار هذه الدعوة سوى المصطلح. أما فيما عدا ذلك فكل واحد يعطيه ما شاء من حمولات دلالية قد تصل أحيانا حد التناقض الصارخ. متجاوزا بذلك كل الخطوط الإبداعية المعروفة أو المطلوبة في الممارسات الإبداعية الواعية والمسؤولة، لتتحول لمجرد ذريعة براقة، أو مزايدة مكشوفة، لإضافء الشرعية على بعض الكتابات العشوائية الفاقدة للحد الأدنى من الروائية. كما نبه لذلك بصدق أحد المبدعين قائلا: (إن مصطلح –التجريب- في الرواية لا يفيد الانفلات المطلق من القوانين، والوقوع في الفوضى، والنزعات الذاتية، والادعاءات الفردية، ولعبة الغموض، واللغة المنفلتة من عقالها، وبهلوانيات الاستباحة الشكلية الصرفة).
2 – السقوط في التغريب: فعلى الرغم من التبريرات –الموضوعية- العديدة المصاحبة لهذه الدعوة، لا زال البعض يصر على اعتبارها مجرد حلقة جديدة في مسلسل الدعوات التغريبية المعروفة، ما دامت تستمد أغلب مقوماتها النظرية من خلفيات مرجعية أوروبية وأمريكية مكشوفة. وبذلك تخطئ بدورها طريق الأهداف المرسومة في البداية، ما دامت تستمر في النظر، كسابقاتها، لقضايانا القومية والمحلية، بعيون غيرية غريبة تاريخيا، وعاجزة إبستمولوجيا عن معالجة مشكلاتنا الحضارية الحقيقية في العنق: (لأن الفكر العربي كان يرفض بعناد أن يفكر في الشروط التاريخية والاجتماعية التي حكمت نضج هذه الأشكال في بعض البلدان، فإنه أقفل دون نفسه أبواب الاكتشاف والتجدد). علما بأن هذا يعد في نظر البعض: (السبب الرئيسي لإخفاق التجارب التي كانت تبدو أنها الأكثر تبشيرا بالنجاح).
3 – التجريب للتجريب: إن تغييب الشروط التاريخية الموضوعية الضابطة لقواعد الكتابة الروائية التجريبية وأهدافها، ترك المفهوم لدى البعض فضفاضا مفتوحا على كل –الاجتهادات- النظرية المختلفة المفرغة أحيانا من أي غاية محددة. ليتحول الرهان في النهاية لدعوة فنية مفتوحة تتوخى التجريب للتجريب، ضاربة عرض الحائط بالعلاقة الجدلية الوطيدة القائمة بين الشكل والمضمون. وهو ما لا يتلاءم تماما، حسب البعض، ومعطيات شرطنا السوسيوثقافي الخاص، وتحدياته التاريخية الجسيمة الراهنة: (أفهم طبعا البعد الفني للتجريب، ولكني مع ذلك أحب أن يثق الكاتبفي نفسه، وأن يختار طريقة، وأن يبدع وهو مطمئن إلى أن تجربته ناجحة، ويوم يكشف الواقع أنه في حاجة إلى أن يطور تجربته، عليه آنذاك أن يرتاد تجربة أخرى).
ومع ذلك، فرغم كل الاعتراضات السابقة، لا بد من الاعتراف بأن الرواية المغربية شهدت في هذه المرحلة الثالثة تحولات كمية وكيفية هامة، تمثلت في ارتفاع حجم الإصدارات السنوية، وما رافقها من تلوينات فنية كبيرة، أضفت على مشهدنا الروائي العربي ثراء لافتا يتجاوز حداثة سنه بكثير، مما يبشر بغد مشرق واعد في هذا المجال.
ب – رهانات الرواية المغربية:
من خلال العرض السابق يمكن استخلاص مجموعة من الملاحظات المحددة بشكل أوب آخر لأغلب رهانات الرواية المغربية في مختلف مراحلها التاريخية. وهي ملاحظات تتوزع بحكم طبيعتها لثلاث مجموعات تتفاعل فيما بينها لرسم معالم مختلف هذه الرهانات وتحديد أبعادها:
1 – ملاحظات خارجية: وتشمل كل الخاصيات المرتبطة بالمعطيات الخارجية الفاعلة من بعيد في تأطير توجهات الكتابة الروائية المغربية ورسم رهاناتها الفكرية والجمالية، بغض النظر عن تبايناتها النوعية الداخلية (تاريخية، سياسية، ثقافية، وحضارية..) من ذلك مثلا:
ـ أن الرواية المغربية، بحكم انتمائها القومي، تشكل، بجانب مثيلاتها القطرية الأخرى، جزءا لا يتجزأ من الرواية العربية ككل. مما يجعلها تتحمل، بالإضافة لأعبائها الإقليمية الخاصة، أعباء جهوية عامة مختلفة، تتمثل جليا في التعبير المشترك عن نفس القضايا (فلسطين، الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، والدفاع عن الهوية العربية..)، وما موضوعات روايات قنديل أم هامش، عصفور من الشرق، الحي اللاتيني، في الطفولة، موسم الهجرة إلى الشمال، وتغريبة الحسين، إلا نماذج لذلك.
ـ أن الرواية المغربية كالعربية، جنس أدبي حديث دخل الساحة الإبداعية المشرقية متأخرا مع الحملة النابوليونية على مصدر سنة 1798. وهو ما يعني بعبارة أخرى أنه جنس دخيل، ذو أصول غربية، يفرض على الروائيين العرب عموما، والمغاربة خصوصا، جهودا مضنية مضاعفة لاستنباته وتأصيله في التربة المحلية، كخطوة أساسية أولى على طريق طي مراحل التخلف، وتحقيق التميز المنشود. الأمر الذي يمكن معه اعتبار الكتابة الروائية العربية، من هذه الناحية، إحدى واجهات تحدياتنا الحضارية الراهنة(*).
ـ أن انفتاح المغرب على العالم الخارجي، جعله يتفاعل بشكل قوي جدا مع الأحداث الدولية الكبرى، سياسية كانت أم فكرية، مما كان له أبلغ الأثر في تطوير مسار الحركة الثقافية الوطنية، وتجديد ملامحها العامة. وفي هذا الإطار يكفي التذكير بالمضاعفات الخطيرة لحادثي، النكسة العربية وانهيار المعسكر الاشتراكي، على الأوضاع الثقافية العربية، بما فيها الوضع الداخلي الوطني، للوقوف على حجم هذا التأثير، وتقدير انعكاساته المختلفة في تحديد رهاناتنا المعرفية، تكريسا، حذفا، أو تغييرا، بما يتلاءم وخصوصية الشروط السوسيو ثقافية الجدية.
2 – ملاحظات داخلية: وتضم المعطيات الداخلية المحددة لملامح الوضع الاستثنائي المميز للرواية المغربية عن غيرها من أعمال باقي الأقطار العربية الأخرى، لما لذلك من تأثير كبير في ضبط المواصفات، الكمية والكيفية، الخاصة برهانات كل قطر. منها:
ـ الظهور المتأخر للرواية المغربية، مقارنة بشقيقتها المشرقية، المتأخرة بدورها عن الغربية، نموذجنا المشترك. أفرز إحساسا مضاعفا بالنقص لدى الروائيين المغاربة، تطلب جهودا استثنائية مضاعفة لتجاوزه، وتحقيق الرهانات الخاصة الملائمة لذلك، كما هو واضح من مختلف مراحل تاريخ هذه الممارسة على الصعيد الوطني.
ـ أن الرواية المغربية، شأنها شأن كافة الممارسات الفكرية، مشروع إبداعي طويل زمنيا، على حداثته النسبية. فهو يمتد، في أضعف الأحوال، لما يناهز نصف قرن تقريبا. بكل ما عرفه العالم، ومعه المغرب، طوال هذه المدة، من أحداث، داخلية وخارجية، سياسية وثقافية، كان لها، دون شك، الأثر القوي، لا في تسطير بعض الرهانات فقط، بل في حذف وتعديل أخرى أيضا، بما يواكب هذه المستجدات، ويضفي على مشروعنا الروائي، في الوقت ذاته، طابعا حيويا خاصا، يستحيل معه الحديث عن رهانات محددة قارة.
ـ أن الرواية المغربية، شأنها شأن كافة الممارسات الفكرية، مشروع إبداعي طويل زمنيا، على حداثته النسبية. فهو يمتد، في أضعف الأحوال، لما يناهز نصف قرن تقريبا. بكل ما عرفه العالم، ومعه المغرب، طوال هذه المدة، من أحداث، داخلية وخارجية، سياسية وثقافية، كان لها، دون شك، الأثر القوي، لا في تسطير بعض الرهانات فقط، بل في حذف وتعديل أخرى أيضا، بما يواكب هذه المستجدات، ويضفي على مشروعنا الروائي، في الوقت ذاته، طابعا حيويا خاصا، يستحيل معه الحديث عن رهانات محددة قارة.
ـ أن الرواية المغربية، مغربية بكل ما في الكلمة من معنى، أي أنها تعكس الخصوصية المحلية بمختلف تجلياتها، الثقافية، السياسية، والاجتماعية. لذلك فلا غرابة إذا ما وجدنا الرهان الوطني يحتل صدارة ترتيب هذه الرهانات، كما تعكس ذلك، بأشكال ودرجات مختلفة، كل النصوص الروائية المغربية.
3 – ملاحظات خاصة: أن الرواية المغربية باعتبارها مشروعا إبداعيا مشتركا بين فاعلين مختلفين، اجتماعيا، ثقافيا، جنسيا، عمريا، سياسيا ولغويا. شهدت قاعدة روادها اتساعا متزايدا شمل بعض المجالات المعرفية التي اعتبرت، إلى وقت قريب، بعيدة نسبيا عن دائرة الأدب وهمومه اللامتناهية، كالتاريخ، الفلسفة والقانون.. مما أثر، بشكل كبير، في إثراء الساحة الروائية الوطنية وإخصابها. لذلك فنحن حين نركز، في معرض حديثنا عن رهانات الرواية المغربية، على هذه الملاحظات الخاصة بالروائيين، فلاقتناعنا الراسخ بما لهذه العوامل الشخصية من أثر بالغ في تحديد الكيفية الخاصة لبلورة الرهانات الروائية الكبرى، ورسم الملامح المميزة للتجارب المنضوية تحتها.
من خلال العرض السابق، وما تضمنه من ملاحظات مختلفة، يتضح جليا، أن رهاناتنا الروائية، عديدة ومتشابكة. بفعل تداخل عوامل مختلفة، خارجية وداخلية، جماعية وفردية. تلتقي كلها في بلورة جملة من الأهداف المناسبة للخصوصية، المحلية والقومية، لهذا الجنس الأدبي. بهدف إثبات الذات، وطي مراحل اللحاق بركب الحركة الروائية العربية والعالمية، خصوصا بعدما تحول الحلم لحقيقة بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب سنة (1988)(*). رهانات تتخذ على مستوى الممارسة مظاهر مختلفة ومتنوعة، باختلاف تكوين روائيينا، وتنوع رؤاهم الفنية، الفكرية، والسياسية. مما يغني الساحة الروائية الوطنية، ويضفي عليها ثراء خاصا، يجلانها تقف شامخة بجانب التجارب العربية المتطورة.
عموما، وبغض النظر عن التمايزات الداخلية للتجارب المساهمة في هذه الممارسة الإبداعية، يمكن إجمال مختلف هذه الرهانات في النقط التالية:
ـ التعبير عن الواقع المغربي بمختلف تجلياته (اجتماعية/سياسية/حضارية/تاريخية..).
التعبير عن قضايانا القومية المشتركة، فكرية، السياسية، والحضارية (فلسطين/الهوية الحضارية/صراع الشرق والغرب..).
ـ المساهمة في ترسيخ الكتابة الروائية، كجنس أدبي دخيل، في التراث العربي.
ـ إيجاد كتابة روائية مغربية متميزة، تجسد الخصوصية المحلية شكلا ومضمونا.
ـ العمل على تدارك السبق المشرقي، والغربي أيضا، في هذا المجال.
ـ إضافة للرغبة في التعبير عن بعض الهموم والانشغالات الذاتية الخاصة، في بعدها الإنساني العام.
تلكم بعض رهانات الكتابة الروائية المغربية، كما عنت لنا من خلال استقراء واقع هذه الممارسة الإبداعية في مختلف تجلياتها. حاولنا بسطها، في هذا اللقاء العلمي المبارك، رغبة في إظهار حجم الأعباء والمسؤوليات الملقاة على كاهل روادها، إنصافا لهم على ما بذلوه، وتشجيعا لهم، في الوقت ذاته، على مواصلة الطريق لربح الرهانات المتبقية، وما أكثرها في مجال الكتابة الروائية عامة، والمغربية منها على وجه الخصوص.
عبد العالي بوطيب
قبل الشروع في سرد تفاصيل هذا الموضوع، لا بد من إبداء بعض الملاحظات النظرية العامة، تعد بمثابة أرضية ضرورية لفهم دلالة الرهان (أو الرهانات) في علاقته الجدلية الوطيدة بمختلف مجالات العمل من جهة، وتحديد العوامل الفاعلة في ضبط طبيعته الكمية والنوعية من جهة أخرى. مما سيساهم، إلى حد كبير، في كشف أبعاد الإشكال المطروح، وتيسير إدراكه. من ذلك مثلا:
1 – أن لكل عمل هادف رهانا (أو رهانات) محددا، قد يختلف من حالة لأخرى، لكنه يظل دائما حاضرا، بشكل من الأشكال، يحدد توجهه، ويصونه من مخاطر الزوغان عن المسار المرسوم. فالرهان، بهذا المعنى، يعتبر بمثابة الغاية الضابطة لملامح العمل، والمحددة، في الوقت ذاته، لقيمته، منها يستمد مشروعيته، وبها تقاس أهميته وجسامته(*). وهو ما يعني بعبارة أخرى أن العلاقة بينهما علاقة على بمعلول، أو هكذا ينبغي أن تكون، ضمانا للانسجام المطلوب لنجاح كل مشروع. لذلك نعتقد أن الحديث عن أي ممارسة، كيفما كانت طبيعتها، لا يستقيم، علميا على الأقل، دون تحديد رهاناتها، وتقدير مردوديتها المحتملة(*).
فإذا ما اعتبرنا الكتابة الروائية المغربية، تعبيرا إبداعيا عن رهانات ضمنية مختلفة، باختلاف شروط تحققها، الحضارية والثقافية، العامة والخاصة، المشكلة لأهم مراحل تاريخ هذه الممارسة بالمغرب. أمكننا الجزم، دون مجازفة، بأن الفهم الدقيق لأبرز التحولات، الفكرية والفنية، التي مر، ويمر، بها مشهدنا الروائي من البداية إلى اليوم، يتوقف، في جزء كبير منه، على عمق معرفتنا برهاناته. نظرا للعلاقة الوثيقة القائمة بينهما.
2 – أن الرهان، كمعطى تاريخي، له قيمة نسبية، مرتبطة بحيثيات عديدة ومختلفة، يستوجب التحيين الدائم، تعديلا وتغييرا، كلما تطلب الأمر ذلك، ضمانا لحيوية المشروع، وحماية له من خطر السقوط في آفتي الجمود والتكرار. لذلك فالحديث عن رهان (أو رهانات) محدد ونهائي يعد أمرا مستحيلا، يتنافى والطبيعة التاريخية لموضوع، على درجة عالية من التعقيد، كالرواية المغربية مثلا.
3 – ارتباطا بالملاحظة السابقة، وتأسيسا عليها. يتضح أن الرهان، وإن بدا ظاهريا بسيطا، وعلى علاقة أحادية مباشرة بمشروعه، فإن باطنه يكشف، عكس ذلك، عن طبيعة معقدة، يتقاطع فيها، بالإضافة لما سبق، عناصر أخرى عديدة ومختلفة، تتوزع بين الموضوعي والذاتي، العام والخاص، الثقافي والسياسي.. إلى غير ذلك من العناصر التي يتطلب الكشف عنها دراسة فاحصة تلم بالرهان (أو الرهانات) وحيثياته من جميع الجوانب.
ولإعطاء صورة تقريبية عن حجم التأثير غير المباشر لبعض العوامل الخارجية البعيدة في تحديد الرهان، وضبط مواصفاته، الكمية والكيفية، يكفي التذكير، على سبيل المثال لا الحصر، بالدور الهام الذي يلعبه عامل الزمن، بمفهومه الواسع، في تغيير بعض رهانات المشاريع الطويلة الأمد، لدرجة نصبح معها أمام رهانات عديدة ومختلفة، باختلاف مراحل المشروع، في علاقتها بنتائجه المحققة والمرتقبة على السواء. وإن كان هذا لا يمنع أحيانا من تزامن وتعايش بعض الرهانات المختلفة في مرحلة تاريخية واحدة، خصوصا إذا ما كان المشروع عاما ومشتركا، كالرواية المغربية مثلا، يتقاسمه فاعلون مختلفون، ينفرد كل واحد منهم بتحديد رهاناته الخاصة، ضمن الإطار العام، وفق ما يتلاءم وشروطه المعرفية الشخصية.
إذا أضفنا لهذا كله التأثير الكبير لبعض المعطيات العامة، السياسية والفكرية، القومية والدولية. أمكننا تقدير حجم تشابك الموضوع، وصعوبة تناوله.
4 – أن الحديث عن الرهانات لا ينحصر دائما في المقاصد الواعية المباشرة، صريحة كانت أو ضمنية، بل يشمل كذلك المقاصد غير المباشرة المنفلتة من رقابة الذات، والمشكلة بجانب الأخرى، لخصوصية المشروع في إطاره العام الشامل. وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن المتن المعتمد في استخلاص رهانات الرواية المغربية، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يقتصر على نصوص الروائيين الموازية (شهادات، حوارات، مقدمات شخصية..إلخ) وحدها، بل يجب أن يمتد أساسا لنصوصهم الإبداعية أيضا. لا باعتبارها المنفذ الطبيعي لاختبار مصداقية النوايا المعبر عنها صراحة في النصوص السابقة فقط، وإنما لكونها المجال الأوحد لاستخلاص الرهانات المضمرة أيضا. مما يكسب الدراسة طابعا منهجيا استقرائيا شاملا يمكنها من تجاوز العديد من الصعوبات، كما يضفي على نتائجها، في الوقت ذاته، الكثير من الموضوعية. وهو ما يتطلب في تقديري وقتا وجهدا أطولين مما تسمح بهما المناسبة. لذلك اخترنا الاكتفاء بالتلميحات العامة، بدل الفحص التفصيلي الدقيق، مراهنين على ذكاء القارئ وفطنته في تعميقها واستحضار النماذج الروائية المناسبة لها.
5 – الملاحظة النظرية الخامسة والأخيرة، تخص المشاريع المشتركة، كالرواية المغربية، حيث يتحول المجال الواحد لفضاء جامع، يحوي مشاريع فرعية عديدة، تصب كلها في المشروع العام، بهدف تحقيق ما أسميه بالرهانات المشتركة الكبرى، المرتبطة بالشرط التاريخي العام المؤطر للمشروع، محليا، جهويا، وربما دوليا أيضا. لكن هذا لا يمنع، في تقديري، من وجود رهانات صغرى فردية مرتبطة بالمعطيات، الفكرية والفنية، الخاصة بمختلف المساهمين، وتصوراتهم الشخصية لكيفية بلورة الرهانات العامة الكبرى. مما يضفي عليها طابعا فسيفسائيا متميزا. يستدعي معالجة خاصة، تقيم فصلا مبدئيا بين الرهانات العامة والخاصة، الكبرى والصغرى، بهدف الوقوف على مختلف التلوينات الداخلية للمشروع ككل.
على ضوء الملاحظات النظرية التمهيدية السابقة، وتأسيسا عليها، نقترح تقسيم دراستنا منهجيا لجزأين مختلفين ومتكاملين:
الأول: خاص بالرواية المغربية نعرض فيه جردا تفصيليا لأبرز التقلبات، الفنية والفكرية، التي طبعت مسار هذه الممارسة الإبداعية وطنيا من البداية إلى اليوم. مع التركيز على الأسباب الفاعلة بشكل أو بآخر في تطويرها. جرد نعتبره بمثابة أرضية معرفية صلبة ضرورية لفهم واستيعاب خلفيات محتوى الجزء الثاني المتعلق بمختلف الرهانات، العامة والخاصة، التيماتية والفنية، التي طرحها الروائيون المغاربة، فرديا و/أو جماعيا، في كل مرحلة من مراحل تاريخ هذه الكتابة على الصعيد الوطني.
أ – الرواية المغربية:
قبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع الهام والشائك، لا بد من تقديم بعض الإيضاحات الضروري من باب الاحتياط، تفاديا لكل لبس من شأنه الإساءة لطبيعة هذه الدراسة، موضوعا أو منهجا، منها:
أولا: أن هذه الدراسة تروم تقديم جرد تاريخي عام لأهم وأبرز المحطات والتحولات التي مرت بها الكتابة الروائية المغربية من البداية إلى الآن. وهو ما يعني بعبارة أخرى هيمنة الطابع التوثيقي على التحليلي، باستثناء حالات خاصة تستدعي ذلك.
ثانيا: أنها ستنصب، بحكم طبيعتها، على دراسة مختلف الظواهر العامة البارزة في هذه المسيرة، شكلية كانت أم فكرية، غير غافلة عما يمكن أن يتولد عن ذلك من ضياع اضطراري لبعض الاستثناءات والخصوصيات المتأبية، بحكم طبيعتها، على الملاحقة والمتابعة خارج الدراسة النصية المحايثة الدقيقة، مما لا يسمح به المقام حاليا.
ثالثا: أننا حصرنا نطاقها في دائرة الرواية المغربية المكتوبة بالعربية وحدها، دون شقيقتها المفرنسة، رغم معرفتنا الدقيقة بالصعوبات الكبيرة التي يطرحها مثل هذا الإجراء، بالنظر للعلاقات الوطيدة القائمة أحيانا بينهما.
رابعا: أننا اعتمدنا المعيار التحقيبي للفصل إجرائيا بين مختلف مراحل مسيرة الكتابة الروائية بالمغرب، رغم ما قد يحدثه مثل هذا التقسيم التعسفي أحيانا من سلبيات، متولدة أساسا عن الربط الآلي بين ما هو تاريخي وما هو أدبي. لهذا وجب التنبيه مبدئيا إلى أن هذا الإجراء، ما هو إلا خطوة منهجية استوجبتها الطبيعة التاريخية للدراسة ليس إلا، ومن ثم فإن الحدود الزمنية الموضوعية لها لا توقف، بأي شكل من الأشكال، استمرار حضور بعض خاصيات مرحلة معينة في أخرى، كما سنلاحظ ذلك لاحقا.
خامسا وأخيرا: أننا قسمنا عرضنا هذا لثلاث مراحل أساسية، تغطي كل واحدة منها فترة متميزة من تاريخ الرواية المغربية، وأطلقنا علينا اسما يناسب السمة البارزة فيها. وهذه المراحل هي:
1 – المرحلة التأسيسية: وتمتد زمنيا من تاريخ صدور أول عمل روائي إلى منتصف الستينيات، وبالضبط إلى سنة 1967، تاريخ صدور رواية (جيل الظمأ) لمحمد عزيز الحبابي. وأسميناها بالتأسيسية، لأن مجمل الأعمال المنضوية تحتها، وعددها تقريبا حوالي(28) عملا، يطغى عليها هاجس إرساء قواعد ممارسة روائية مغربية، تسد خصاص الموروث الثقافي العربي في هذا المجال، وتحاول محو آثاره المعرفية السلبية. على أنه إذا كان هناك شبه إجماع حول تاريخ نهاية هذه المرحلة، فإن بدايتها ظلت، مع ذلك، محط خلاف قوي بين الباحثين إلى اليوم. فمنهم من أرجعها لسنة 1957، تاريخ صدور (في الطفولة)(*) لعبد المجيد بنجلون، ومنهم من ذهب لما هو أبعد وربطها بتاريخ صدور (الزاوية)(*) للتهامي الوزاني سنة 1942، أو (الرحلة المراكشية)(*) لابن المؤقت سنة 1924.
ومهما يكن من أمر، فالمؤكد أن ظهور الرواية العربية بالمغرب عرف تأخرا ملحزظا مقارنة بتاريخي ظهورها في الشرق والغرب، وهو ما يعني، بعابرة أخرى، أنه تأخر مضاعف، جعل من الأعمال الروائية الشرقية والغربية نماذج تحتدى: (بالنسبة للرواية المغربية تبدو الورطة أكبر، ما دامت تمثل العطب المزدوج، عطبها الخاص المتعلق بنشأتها، وعطب تقليدها للرواية المشرقية التي قلدت بدورها رواية الغرب، المبدع الحقيقي، بلا منازع، للرواية العصرية). وضع غريب يثير أكثر من علامة استفهام، خصوصا مع عجز المعطيات السوسيوثقافية للمرحلة التاريخية المذكورة، عن تقديم أجوبة شافية لها، ما دام وزنها ينحصر في تفسير الشأن المحلي القطري، ولا يتعداه لتقديم تبرير موضوعي مقنع يزيح الستار عن سر تأخر ظهور الرواية العربية ككل مقارنة بالرواية الغربية. وأدى، بالتالي، لاعتبار الكتابة الروائية، كالدرامية، جنسا إبداعيا دخيلا ومستحدثا في المؤسسة الأدبية العربية، خلافا للشعر/ديوان العرب: (لا يختلف اثنان في أن الرواية العربية نشأت في العصر الحديث فنا مقتبسا من الغرب، أو متأثرا به تأثرا شديدا). وضع تتطلب الإجابة عنه، بالضرورة، توسيع دائرة البحث لتشمل طبيعة الرواية كجنس أدبي ارتبط، دائما وأبدا، في أذهان الباحثين، على اختلاف عصورهم وتوجهاتهم، بشروط مرحلة تاريخية محددة، تتجاوز نطاق المعطيات الظرفية المحلية الخاصة بالغرب أو الشرق على حد سواء. كما يؤكد ذلك كولدمان: (يبدو أن الشكل الروائي هو بالفعل تحويل على المستوى الأدبي للحياة اليومية في المجتمع الفرداني المتولد عن الإنتاج من أجل السوق). وهو ما يدعو للاعتقاد بأن تأخر ظهور الرواية العربية عموما، مغربية كانت أو مشرقية، أمر طبيعي يجد تبريره في تخلف الشروط التاريخية الملائمة، ويؤكده الغياب الفعلي الرواية في التراث القومي، رغم ما يذهب إليه البعض من توفره على أشكال (ما قبل روائية)(*). لهذا كان طبيعيا أن تتصف أغلب أعمال هذه المرحلة، بما أسماه أحد النقاد بـ(الإذقاع الفني.. والمحاكاة الحرفية لبعض النماذج المشرقية المتجاوزة). كما هو الحال بالنسبة (لأمطار الرحمة) لعبد الرحمان المريني، و(غدا تتبدل الأرض) لفاطمة الراوي، و(بوتقة الحياة) للبكري السباعي، و(إنها الحياة) لمحمد البوعناني. مما جعل الذاكرة الثقافية الوطنية تسقط من مخزونها أغلب أعمال هذه المرحلة، باستثناء عناوين خمسة، نسوقها حسب ترتيبها الكرونولوجي، وهي:
ـ (الزاوية) للتهامي الوزاني (1942).
ـ (في الطفولة) لعبد المجيد بنجلون (1957).
ـ (سبعة أبواب) لعبد الكريم غلاب (1965).
ـ (دفنا الماضي) لعبد الكريم غلاب (1966).
ـ و(جيل الظمأ) لمحمد عزيز الحبابي (1967).
باعتبارها أعمالا لا تمتلك قيمة فنية تمثيلية كبيرة، تؤهلها لإعطاء صورة عامة وواضحة عن ملامح الكتابة الروائية المغربية آنذاك. فماذا عن هذه الملامح؟
بعودتنا لهذه الأعمال وتفحصها، في محاولة لاستخلاص القاسم (أو القواسم) الفنية والفكرية المشتركة بينها. نلاحظ ما يلي:
أولا – امتزاج الروائي بالسير ذاتي: لعل أبرز ما يشد انتباه الباحث في أعمال هذه المرحلة التأسيسية الهامة، من مراحل الكتابة الروائية المغربية، وربما في غيرها أيضا، طغيان ظاهرة امتزاج الروائي بالسير ذاتي، بحيث لا يكاد يخلو عمل من الأعمال الخمسة السابقة من بعض آثار هذا المكون الخاص على المستوى الحكائي، وما موضوع (في الطفولة) و(سبعة أبواب) إلا دليلا على ذلك: (الواقع أن معظم الروايات المغربية، وعلى الخصوص روايات البدايات، هي روايات سير ذاتية بشكل أو بآخر، حيث غالبا ما ينهل كاتبها من تجربته، محاولا الاستفادة من ماضيه كما هو، أو محورا بصياغة فنية، تختلف من كاتب لآخر).
ظاهرة تستدعي البحث عن الأسباب الثاوية خلفها لمعرفة ما إذا كانت مؤشرا على ما يطبع البدايات عادة من خلط أجناسي، ينم عن سوء فهم لخصوصية الكتابة الروائية، أم إفرازا موضوعيا يرتبط بمعطيات المرحلة التاريخية المذكورة. علما بأنها ظاهرة عامة تتجاوز نطاق ما هو وطني محلي، لتطال البدايات الروائية الشرقية والغربية على حد سواء: (اتخاذ السيرة الذاتية شكلا للتعبير عن الذات وعلاقتها بالمجتمع، ليس ظاهرة قاصرة علينا، فنحن نجدها واضحة وقوية في الإنتاج المصري خلال العشرينات الأولى)، بدليل (زينب) لهيكل، و(الأيام) لطه حسين، و(حياتي) لأحمد أمين، وغيرها. وهو ما يؤشر على تماثل كبير في شروط وملابسات البدايات الروائية في المركز (الغرب والشرق) والمحيط (المغرب). ويستوجب، بالتالي، البحث عن أسباب ذلك فيما هو عام مشترك، لا فيما هو خاص فردي. وأغلب الظن أن معرفة عميقة بالخصوصيات الإبداعية لهذا الجنس الأدبي في ارتباطه بالسياق السوسيو ثقافي العام ستفيد حتما في كشف العديد من أسرار هذا الوضع المثير: (الواقع أن رواج النوع الروائي كان على حد سواء نتيجة تأثير فني وعلامة لذاتية متحررة بغتة، لذلك فقد عرفت الرواية شكلا واحدا هو شكل السيرة الذاتية، إلى حد أن الرواية الفنية ظلت خلال زمن طويل مرادفا لرواية السيرة الذاتية)، مما يسمح باستنتاج أن بداية الكتابة الروائية المغربية كانت محكومة تاريخيا بما يمكن نعته بتضخم الأنا، لدرجة لم يجد معها الروائيون آنذاك بدا من تجربتهم الشخصية موضوعا أساسيا للحكي: (في مرحلة أحس خلالها المتعلمون والمثقفون بأهميتهم، فراحوا يستكشفون ذواتهم، ويعكفون على تفسير أناهم المتضخمة، وعلى تحديد العلاقة بينهم وبين مجتمعهم المتحرك في اتجاه واحد.
ثانيا – حضور الآخر: الخاصية الثانية المميزة لأعمال هذه المرحلة تتمثل في حضور الآخر/الغرب، ولو بأشكال مختلفة، كطرف أساسي فاعل في معادلة الصراع الحكائي، كما يجسد ذلك، بشكل صارخ، مضمون سيرة عبد المجيد بنجلون (في الطفولة): (ففيها يتحدث الكاتب بضمير المتكلم عن طفولته، هادفا إلى إرضاء رغبة نفسية في تسجيل ذكرياته الحبيبة كطفل عاش في بيئتين متناقضتين: أنجلترا والمغرب)، حضور يجد سنده الموضوعي في الخصوصية التاريخية لهذه المرحلة المعروفة وطنيا وقوميا بكثرة المصادمات الحضارية وتنوع مظاهرها (الاستعمار، المطالبة بالاستقلال، التحدي الحضاري، والمثاقفة). وهو ما يفسر، في الوقت ذاته، الحضور القوي لهذه التيمة الحكائية في الكتابات الروائية المشرقية أيضا: (فالتساؤل عن علاقة الأنا-العربي – بالآخر – الغربي – تكاد تتلاحق بمستويات مختلفة منذ –عصفور من الشرق- إلى –قنديل أم هامش- إلى –الحي اللاتيني- ف –موسم الهجرة إلى الشمال- كأنضج وعي يطرح أنا –التحدي- في مقابل أن –الانبهار- التي عبرت عنها الروايات السابقة).
ثالثا – اعتماد قواعد الكتابة الكلاسيكية: أما على المستوى التقني المجسد لملامح الكتابة الروائية في هذه المرحلة فالملاحظ أن أغلبها يستمد رصيده من مقومات الرواية الكلاسيكية، المعروفة بهيمنة الحكياة، والاهتمام الكلي بالحبكة الروائية، بالإضافة للمحافظة المطلقة على خطية السرد، واعتماد السارد الكلي المعرفة، فضلا عن كثافة التدخلات المباشرة: (إن هذا البناء.. يقوم على الحكاية، والزمن الواحد المسلسل، والراوي التقليدي المطلع والعارف بكل شيء، والتعليمات المباشرة والوعظ والخطابية، وتدخل المؤلف بالتعليق على الأحداث والشرح..)، مما يعد أمرا طبيعيا في هذه المرحلة المبكرة، نظرا لحداثة الجنس الروائي من جهة، وجسامة المسؤولية الأدبية الملقاة على كاهل هؤلاء الرواد، في غياب تقاليد روائية قومية، من جهة ثانية. لهذا نعتقد أن مثل هذه المآخذ لن تنال، بأي حال من الأحوال، من القيمة التاريخية الكبيرة لهذه الأعمال.
2 – المرحلة الواقعية: وتمتد زمنيا من نهاية المرحلة السابقة إلى منتصف السبعينات تقريبا، وتتميز من الناحية السياسية بحصول المغرب على الاستقلال سنة (1956)، ودخوله مرحلة الجهاد الأكبر لمحو آثار التخلف والاستعمار. خصوصا بعد الآمال الوردية العريضة التي علقها المغاربة على هذا الحدث السياسي الهام طوال مرحلة الجهاد الأصغر. لدرجة أصبح معها معادلا موضوعيا لبلورة كافة الأهداف التنموية الأخرى: (فاجأني على الخصوص تطرف بعض المواطنين في تأويلاتهم الطوباوية للعهد الجديد، وكان لسان حالهم يقول: -لقد حصلنا على الاستقلال.. يكفي الآن أن ندير خاتم سليمان-). آمال ظل معظمها، للأسف الشديد معلقا، أو في حكم المعلق، بفعل معطيات تاريخية عديدة ومتشابكة. مما انعكس في شكل إحباط كبير أصاب نفوس الجماهير الشعبية العريضة. إحباط بدأوا يشعرون معه وكأنهم استغلوا: (حين قاتلوا من أجل قضية ربحها غيرهم). فاحتدم الصراع المغربي/المغربي، بين الفئات المستفيدة من الوضع الجديد والفئات المحرومة، خصوصا بعد انتهاء شروط التحالف الاستراتيجي المرحلي السابق ضد المستعمر الأجنبي، وظهور الخلافات المجمدة سابقا على السطح من جديد: (إذا كان شعار –الاستقلال- هو العنوان الذي شخص متطلبات تلك الفترة، فإن الأمور اتخذت مجرى آخر عقب ذلك، جعل التحالف المؤقت –التكتيكي- يسفر عن الاختيارات الحقيقية لكل طبقة على حدة، تلك الاختيارات التي جسمتها عمليا المواقف المختلفة إزاء العديد من القضايا الأساسية ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية).
إذا أضفنا لذلك كله، الآثار السلبية الفادحة لهزيمة(1967) النكراء، وما أحدثته من رجة فكرية ونفسية عنيفة في كيان جميع الشعوب العربية، في ظل ظرفية تاريخية مشحونة بصراع إيديولوجي قوي بين المعسكرين المهيمنين على الساحة الدولية آنذاك. أمكننا فهم سر اعتماد هذا التاريخ نقطة تحول جذري في مسار الكتابة الأدبية المغربية عامة، والروائية منها على الخصوص. وما التوتر الحاد الذي طبع المؤسسة الثقافية الوطنية في تلك المرحلة إلا دليلا صارخا على ذلك: (يمكن القول، إذن، إن الإنجازات التي طالعتنا منذ بداية الستينات، تعتبر تمثيلا فنيا للقوى الاجتماعية في صراع يحتد تارة ويخبو أخرى. فالتناقضات التي أذكت ذلك الصراع على المستوى السياسي خاصة، كان لها انعكاس بماشر في الحقل الأدبي والفكري). وفي هذا الإطار يكفي التذكير ببعض المفاهيم –النقدية- المهيمنة على الساحة الثقافية آنذاك، (كالصراع الطبقي/الالتزام/المثقف العضوي/ اليمين/ اليسار/ التقدمي/ الرجعي/الثقافة التقليدية/والثقافة الثورية)، لأخذ فكرة واضحة عن طبيعة هذه المرحلة. وهو ما انعكس على الكتابة الروائية المغربية، التي وجدت ضالتها المنشودة في –الواقعية-، باعتبارها الاتجاه الإبداعي الملائم الكفيل بتحقيق الرهانات التاريخية المطروحة، كما تعكس ذلك بجلاء أعمال كل من محمد زفزاف، عبد الكريم غلاب، مبارك ربيع، ومحمد شكري. لقد (توجه الكتاب الجدد إلى موضوعات مجتمعهم الجديد، واستأثرت قضايا مرحلتهم التاريخية باهتمامهم، فعبروا عن فكر الطبقة الشعبية وإيديولوجيتها، وصوروا الجهل والفقر والمرض والتخلف والفساد، كما رصدوا مظاهر التجديد في الحياة الاجتماعية وآزروها).
وقد تميزت هذه الأعمال من الناحية الفنية والفكرية، مع اختلاف في الدرجات طبعا، بطغيان مجموعة من السمات، نجملها فيما يلي:
• تكريس هيمنة السياسي على الثقافي
• إعلاء الجوانب الفكرية على الفنية.
• إعطاء الأولوية لوظيفة الأدب على حساب طبيعته.
• اعتبار الاجتهادات الفنية مجرد محاولات إبداعية شكلية فجة.
• حضور بعض القضايا القومية (كقضية فلسطين مثلا).
• حضور التاريخ المغربي الحديث والمعاصر كتيمة روائية بارزة.
• الحضور المكثف لبعض الظواهر الاجتماعية التي تمس الفئات المحرومة.
• ظهور البطل الإشكالي.
• إسناد البطولة لمثقفي البورجوازية الصغيرة والمتوسطة.
• استخدام اللغة البسيطة الخالية تقريبا من كل ملامح البيان العربي الكلاسيكي.
• اعتماد الشروط الموضوعية في تحريك الأحدث الروائية، واستبعاد الصدف والمفاجآت المعمول بها سابق.
كل هذا طبعا إلى جانب استمرار حضور موضوعي السيرة الذاتية والغرب، ولو بدرجة أقل، مما يدعم ملاحظتنا السابقة بخصوص رفض الأدب، القوي، الخضوع لدقة وصرامة التحقيب السياسي والتاريخي. وأن اعتماد هذا الإجراء لا يعدو أن يكون مجرد خطوة عملية تستهدف التحكم في مجريات الدراسة، لا أقل ولا أكثر.
على أنه إذا كانت السمات السابقة تعكس، بصدق وأمانة، أبرز ملامح الوضع الاجتماعي والسياسي لتلك المرحلة، فمما لا شك فيه أيضا أن هذا الوضع كانت له سلبيات كثيرة على مسار الحركة الروائية المغربية يصعب تجاهلها. لعل أخطرها تكمن في إعاقته تطور الجوانب الفنية في موازاة الجوانب الفكرية. والحيلولة، بالتالي، دون تحقيق تطور أصيل ومتوازن لهذا الجنس الإبداعي المستحدث في التربة الوطنية، كما لاحظ ذلك بعض النقاد: (إن الذين كانوا يدرسون في كل مناسبة سوسيولوجية المضمون، لم يفكروا لحظة واحدة في رسم –ولو أولي- سوسيولوجية الشكل). وبذلك ظلت الممارسة الروائية المغربية، والعربية عامة، تعاني من تبعات ولادتها القسرية، في شكل تمزق مأساوي فظيع، بين شكل روائي غربي ومضمون حكائي عربي. ف(كيف يستطيع الروائي العربي أن يدفع في شكل مستورد محتواه أو فضاءه المحلي أو الخصوصي، والحال أن الشكل الأوروبي ليس نسجا خارجيا، أو مجرد رداء فضفاض يسع كل مجال)، خصوصا وأن جهودنا في المرحلة التأسيسية السابقة، لم تتجاوز مهمة ملء الخانة الروائية الفارغة في التراث العربي القديم، عن طريق تقليد النماذج الغربية. انهمكنا بعدها في معمعمة الصراع الإيديولوجي المحموم، معتمدين نفس الأشكال والتقنيات التعبيرية المستعارة السابقة، فأضعنا بذلك فرصة تأصيل الكتابة الروائية، وإيجاد أشكال سردية ملائمة لواقعنا المغربي، وخصوصياته الثقافية والحضارية إلى ما بعد منتصف السبعينيات، تاريخ بداية المرحلة الثالثة والأخيرة. فهل سيتحقق حلم الروائيين المغاربة في بلوغ سن الرشد الإبداعي، كما يطالب بذلك البعض: (لعل السؤال الذي يطرح نفسه هو. متى الرشد؟ متى نصبح نحن كتاب الرواية العرب، مبدعين ذاتيين، نعطي شيئا جديدا متأثرين بأنفسنا، بعبقريتنا، بتجربتنا، لا صدى لغيرنا، نرقص كبهلوانيين إذا رقص الغير-المسبا-، ونعود إلى _الفالس- إذا عاد إليه الغير؟). ذاك ما سنحاول معرفته فيما يلي:
3 – مرحلة التجريب: وتتميز على الصعيد السياسي بالعديد من الأحداث الهامة، الداخلية منها والخارجية. كان لها الوقع الكبير في تغيير مسار الأدب والفكر المغربيين، بعيدا عما كانا عليه في السابق. فعلى المستوى الداخلي تزامنت بداية هذه المرحلة وحدث المسيرة الخضراء سنة (1975)، لتحرير الصحراء، واستعادة الأقاليم الجنوبية المغتصبة من طرف الاستعمار الإسباني. حدث ساهم، باعتراف الجميع، إلى حد كبير في تحقيق المصالحة الوطنية، واستعادة الأمة المغربية لصالبتها المعهودة في مواجهة المخاطر الخارجية. مما مهد الطريق واسعا أمام مسلسل الإصلاحات الديموقراطية، لتدشين ما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية بمغرب العهد الجديد. عهد اتسم بحصول توافق وطني عام حول مجموعة من المبادئ الأساسية لدخول عهد التناوب، وتحقيق الإصلاحات الدستورية والتشريعية المستعجلة لإخراج البلاد من الأزمة الخانقة التي وصلتها في ظل السياسات اللاشعبية السابقة، وما أفرزته من اختلالات اجتماعية واقتصادية خطيرة.
أما على المستوى الخارجي، فقد شهدت هذه المرحلة بداية انهيار المعسكر الشرقي، بكل ما يحمله ذلك من دلالات عميقة على فشل الإيديولوجية الاشتراكية في تحقيق الآمال العريضة المعلقة عليها في معظم أرجاء المعمور. كما عرفت أيضا تطورات معرفية كبيرة همت مختلف حقول الدراسة الأدبية، خصوصا بعد الثورة اللسانية وما رافقها من اهتمام، غير مسبوق، بالجوانب الفنية للنصوص، بعيدا عن كل الاعتبارات الخارجية الغريبة عن حقل أدبية الأدب، كما أوضح ذلك ياكبسون: (إن موضوع علم الأدب ليس هو الأدب، وإنما الأدبية، أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا). وهنا لا بد من الإشادة بالدور الهام الذي لعبته الجامعة المغربية في أشاعة المفاهيم النقدية الحديثة، وتقريبها من عموم المثقفين، عن طريق الترجمة المباشرة من المصادر الغربية، دونما حاجة للوساطة المشرقية، كما كان الأمر سابقا.
في ظل هذه الشروط السوسيوثقافية وغيرها، ظهرت على السطح تصورات أدبية جديدة تدعو، من بين ما تدعو إليه، تحديث الكتابة الروائية العربية، عن طريق تجاوز القوالب التعبيرية –القديمة المتهالكة- واستبدالها بأساليب جديدة أخرى، أكثر ملاءمة للوضع الثقافي الراهن: (لأن استمرار هذه الرؤية في ظل ظروف مستجدة أمر يسقط الأدب في متاهة الاجترار والتكرار. إذ لكل مرحلة حضارية قضاياها ومشكلاتها الخاصة بها، التي تتطلب رؤى فكرية وفنية مستجدة. مما يجعل الرؤية التقليدية تبدو شائخة وغير معبرة عن روح الجيل الجديد وآماله. وهذا لا يعني بالطبع نكران إنجازاتها، ولكنه يعني أن هذه الإنجازات والتقاليد أصبحت تراثا ينبغي تجاوزه استجابة لهدير الحياة الجديدة). وهو ما أدى لقيام ما أصبح يعرف آنذاك، وإلى اليوم، بظاهرة التجريب، بكل رهاناتها الإبداعية الهادفة للبحث عن أنسب التقنيات السردية الكفيلة بإعادة الانسجام والتوازن المفقودين للكتابة الروائية المغربية في خضم النزاعات الإيديولوجية السابقة، وما رافقها من إهمال خطير للجوانب الفنية، أدى لتعطيل رهان التأصيل وتأجيله إلى حين. ما دام: (التجريب المستمر.. هو ما يهب الكتابة شرعيتها وتبريرها، وإلا فلا حاجة لنا بهؤلاء –الرواة-، وليس –الروائيين-، الذين ربما كان أفضل لهم لو اصطنعوا لهم منابر خطابية، ومارسوا التوجيه الأخلاقي، أو الاجتماعي، أو السياسي. لأن الرواية هي خطاب من العالم، وفي العالم).
ويمكن تلخيص أهم مرتكزات هذه الدعوة فيما يلي:
• تجاوز عن الأنماط الروائية السائدة
• تجاوز تقنيات الحكي الكلاسيكي
• تكسير خطية السرد
• تنويع الرؤى السردية، وهدم سيطرة السارد العالم بكل شيء
• استغلال التراث
• اعتماد البعد العجائبي
• الحد من أهمية الحكاية
• تفجير اللغة
• تكسير الحدود بين الأجناس والحد من هيمن معيار صفائها المزعوم. إلى غير ذلك من الآليات التعبيرية الأخرى الهادفة لتكسير القوالب القديمة، وتوسيع هامش تحرك القارئ للسماهمة بفعالية أكثر في إغناء الممارسة الروائية والدفع بها نحو آفاق أرحب، كما صرح بذلك أحد الروائيين قائلا: (أنا أكتب رواية القارئ/الكاتب. أي القارئ الذي لا يقرأ لينام. فأنا لم أستطع، لحد الساعة، أن أفهم كيف يفتح المرء كتابا لينام. فهذه قمة العبث. أكبر إهانة للكاتب والكتاب). وما أعمال كل من برادة، المديني، التازي، حميش، شغموم، وآخرين، سوى نماذج لذلك.
وبالمناسبة تجدر الإشارة إلى أنه رغم الحماس الكبير الذي واكب هذه الدعوة من البداية إلى اليوم، فإنها ما زالت مع ذلك تواجه بعض الانتقادات، تحول دون تحقيق الإجماع المنتظر حولها. مما يفسر استمرار تشبث بعض الروائيين المغاربة الكبار باتجاههم الواقعي، (غلاب، زفزاف، ربيع، وشكري..). موقف يمكن إرجاعه لأسباب عديدة، نذكر منها، على سبيلا المثال لا الحصر:
1 – الاضطراب الواضح في تحديد مفهوم التجريب، لدرجة تبعث على الاعتقاد بأن لا شيء يوحد بين أنصار هذه الدعوة سوى المصطلح. أما فيما عدا ذلك فكل واحد يعطيه ما شاء من حمولات دلالية قد تصل أحيانا حد التناقض الصارخ. متجاوزا بذلك كل الخطوط الإبداعية المعروفة أو المطلوبة في الممارسات الإبداعية الواعية والمسؤولة، لتتحول لمجرد ذريعة براقة، أو مزايدة مكشوفة، لإضافء الشرعية على بعض الكتابات العشوائية الفاقدة للحد الأدنى من الروائية. كما نبه لذلك بصدق أحد المبدعين قائلا: (إن مصطلح –التجريب- في الرواية لا يفيد الانفلات المطلق من القوانين، والوقوع في الفوضى، والنزعات الذاتية، والادعاءات الفردية، ولعبة الغموض، واللغة المنفلتة من عقالها، وبهلوانيات الاستباحة الشكلية الصرفة).
2 – السقوط في التغريب: فعلى الرغم من التبريرات –الموضوعية- العديدة المصاحبة لهذه الدعوة، لا زال البعض يصر على اعتبارها مجرد حلقة جديدة في مسلسل الدعوات التغريبية المعروفة، ما دامت تستمد أغلب مقوماتها النظرية من خلفيات مرجعية أوروبية وأمريكية مكشوفة. وبذلك تخطئ بدورها طريق الأهداف المرسومة في البداية، ما دامت تستمر في النظر، كسابقاتها، لقضايانا القومية والمحلية، بعيون غيرية غريبة تاريخيا، وعاجزة إبستمولوجيا عن معالجة مشكلاتنا الحضارية الحقيقية في العنق: (لأن الفكر العربي كان يرفض بعناد أن يفكر في الشروط التاريخية والاجتماعية التي حكمت نضج هذه الأشكال في بعض البلدان، فإنه أقفل دون نفسه أبواب الاكتشاف والتجدد). علما بأن هذا يعد في نظر البعض: (السبب الرئيسي لإخفاق التجارب التي كانت تبدو أنها الأكثر تبشيرا بالنجاح).
3 – التجريب للتجريب: إن تغييب الشروط التاريخية الموضوعية الضابطة لقواعد الكتابة الروائية التجريبية وأهدافها، ترك المفهوم لدى البعض فضفاضا مفتوحا على كل –الاجتهادات- النظرية المختلفة المفرغة أحيانا من أي غاية محددة. ليتحول الرهان في النهاية لدعوة فنية مفتوحة تتوخى التجريب للتجريب، ضاربة عرض الحائط بالعلاقة الجدلية الوطيدة القائمة بين الشكل والمضمون. وهو ما لا يتلاءم تماما، حسب البعض، ومعطيات شرطنا السوسيوثقافي الخاص، وتحدياته التاريخية الجسيمة الراهنة: (أفهم طبعا البعد الفني للتجريب، ولكني مع ذلك أحب أن يثق الكاتبفي نفسه، وأن يختار طريقة، وأن يبدع وهو مطمئن إلى أن تجربته ناجحة، ويوم يكشف الواقع أنه في حاجة إلى أن يطور تجربته، عليه آنذاك أن يرتاد تجربة أخرى).
ومع ذلك، فرغم كل الاعتراضات السابقة، لا بد من الاعتراف بأن الرواية المغربية شهدت في هذه المرحلة الثالثة تحولات كمية وكيفية هامة، تمثلت في ارتفاع حجم الإصدارات السنوية، وما رافقها من تلوينات فنية كبيرة، أضفت على مشهدنا الروائي العربي ثراء لافتا يتجاوز حداثة سنه بكثير، مما يبشر بغد مشرق واعد في هذا المجال.
ب – رهانات الرواية المغربية:
من خلال العرض السابق يمكن استخلاص مجموعة من الملاحظات المحددة بشكل أوب آخر لأغلب رهانات الرواية المغربية في مختلف مراحلها التاريخية. وهي ملاحظات تتوزع بحكم طبيعتها لثلاث مجموعات تتفاعل فيما بينها لرسم معالم مختلف هذه الرهانات وتحديد أبعادها:
1 – ملاحظات خارجية: وتشمل كل الخاصيات المرتبطة بالمعطيات الخارجية الفاعلة من بعيد في تأطير توجهات الكتابة الروائية المغربية ورسم رهاناتها الفكرية والجمالية، بغض النظر عن تبايناتها النوعية الداخلية (تاريخية، سياسية، ثقافية، وحضارية..) من ذلك مثلا:
ـ أن الرواية المغربية، بحكم انتمائها القومي، تشكل، بجانب مثيلاتها القطرية الأخرى، جزءا لا يتجزأ من الرواية العربية ككل. مما يجعلها تتحمل، بالإضافة لأعبائها الإقليمية الخاصة، أعباء جهوية عامة مختلفة، تتمثل جليا في التعبير المشترك عن نفس القضايا (فلسطين، الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، والدفاع عن الهوية العربية..)، وما موضوعات روايات قنديل أم هامش، عصفور من الشرق، الحي اللاتيني، في الطفولة، موسم الهجرة إلى الشمال، وتغريبة الحسين، إلا نماذج لذلك.
ـ أن الرواية المغربية كالعربية، جنس أدبي حديث دخل الساحة الإبداعية المشرقية متأخرا مع الحملة النابوليونية على مصدر سنة 1798. وهو ما يعني بعبارة أخرى أنه جنس دخيل، ذو أصول غربية، يفرض على الروائيين العرب عموما، والمغاربة خصوصا، جهودا مضنية مضاعفة لاستنباته وتأصيله في التربة المحلية، كخطوة أساسية أولى على طريق طي مراحل التخلف، وتحقيق التميز المنشود. الأمر الذي يمكن معه اعتبار الكتابة الروائية العربية، من هذه الناحية، إحدى واجهات تحدياتنا الحضارية الراهنة(*).
ـ أن انفتاح المغرب على العالم الخارجي، جعله يتفاعل بشكل قوي جدا مع الأحداث الدولية الكبرى، سياسية كانت أم فكرية، مما كان له أبلغ الأثر في تطوير مسار الحركة الثقافية الوطنية، وتجديد ملامحها العامة. وفي هذا الإطار يكفي التذكير بالمضاعفات الخطيرة لحادثي، النكسة العربية وانهيار المعسكر الاشتراكي، على الأوضاع الثقافية العربية، بما فيها الوضع الداخلي الوطني، للوقوف على حجم هذا التأثير، وتقدير انعكاساته المختلفة في تحديد رهاناتنا المعرفية، تكريسا، حذفا، أو تغييرا، بما يتلاءم وخصوصية الشروط السوسيو ثقافية الجدية.
2 – ملاحظات داخلية: وتضم المعطيات الداخلية المحددة لملامح الوضع الاستثنائي المميز للرواية المغربية عن غيرها من أعمال باقي الأقطار العربية الأخرى، لما لذلك من تأثير كبير في ضبط المواصفات، الكمية والكيفية، الخاصة برهانات كل قطر. منها:
ـ الظهور المتأخر للرواية المغربية، مقارنة بشقيقتها المشرقية، المتأخرة بدورها عن الغربية، نموذجنا المشترك. أفرز إحساسا مضاعفا بالنقص لدى الروائيين المغاربة، تطلب جهودا استثنائية مضاعفة لتجاوزه، وتحقيق الرهانات الخاصة الملائمة لذلك، كما هو واضح من مختلف مراحل تاريخ هذه الممارسة على الصعيد الوطني.
ـ أن الرواية المغربية، شأنها شأن كافة الممارسات الفكرية، مشروع إبداعي طويل زمنيا، على حداثته النسبية. فهو يمتد، في أضعف الأحوال، لما يناهز نصف قرن تقريبا. بكل ما عرفه العالم، ومعه المغرب، طوال هذه المدة، من أحداث، داخلية وخارجية، سياسية وثقافية، كان لها، دون شك، الأثر القوي، لا في تسطير بعض الرهانات فقط، بل في حذف وتعديل أخرى أيضا، بما يواكب هذه المستجدات، ويضفي على مشروعنا الروائي، في الوقت ذاته، طابعا حيويا خاصا، يستحيل معه الحديث عن رهانات محددة قارة.
ـ أن الرواية المغربية، شأنها شأن كافة الممارسات الفكرية، مشروع إبداعي طويل زمنيا، على حداثته النسبية. فهو يمتد، في أضعف الأحوال، لما يناهز نصف قرن تقريبا. بكل ما عرفه العالم، ومعه المغرب، طوال هذه المدة، من أحداث، داخلية وخارجية، سياسية وثقافية، كان لها، دون شك، الأثر القوي، لا في تسطير بعض الرهانات فقط، بل في حذف وتعديل أخرى أيضا، بما يواكب هذه المستجدات، ويضفي على مشروعنا الروائي، في الوقت ذاته، طابعا حيويا خاصا، يستحيل معه الحديث عن رهانات محددة قارة.
ـ أن الرواية المغربية، مغربية بكل ما في الكلمة من معنى، أي أنها تعكس الخصوصية المحلية بمختلف تجلياتها، الثقافية، السياسية، والاجتماعية. لذلك فلا غرابة إذا ما وجدنا الرهان الوطني يحتل صدارة ترتيب هذه الرهانات، كما تعكس ذلك، بأشكال ودرجات مختلفة، كل النصوص الروائية المغربية.
3 – ملاحظات خاصة: أن الرواية المغربية باعتبارها مشروعا إبداعيا مشتركا بين فاعلين مختلفين، اجتماعيا، ثقافيا، جنسيا، عمريا، سياسيا ولغويا. شهدت قاعدة روادها اتساعا متزايدا شمل بعض المجالات المعرفية التي اعتبرت، إلى وقت قريب، بعيدة نسبيا عن دائرة الأدب وهمومه اللامتناهية، كالتاريخ، الفلسفة والقانون.. مما أثر، بشكل كبير، في إثراء الساحة الروائية الوطنية وإخصابها. لذلك فنحن حين نركز، في معرض حديثنا عن رهانات الرواية المغربية، على هذه الملاحظات الخاصة بالروائيين، فلاقتناعنا الراسخ بما لهذه العوامل الشخصية من أثر بالغ في تحديد الكيفية الخاصة لبلورة الرهانات الروائية الكبرى، ورسم الملامح المميزة للتجارب المنضوية تحتها.
من خلال العرض السابق، وما تضمنه من ملاحظات مختلفة، يتضح جليا، أن رهاناتنا الروائية، عديدة ومتشابكة. بفعل تداخل عوامل مختلفة، خارجية وداخلية، جماعية وفردية. تلتقي كلها في بلورة جملة من الأهداف المناسبة للخصوصية، المحلية والقومية، لهذا الجنس الأدبي. بهدف إثبات الذات، وطي مراحل اللحاق بركب الحركة الروائية العربية والعالمية، خصوصا بعدما تحول الحلم لحقيقة بحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب سنة (1988)(*). رهانات تتخذ على مستوى الممارسة مظاهر مختلفة ومتنوعة، باختلاف تكوين روائيينا، وتنوع رؤاهم الفنية، الفكرية، والسياسية. مما يغني الساحة الروائية الوطنية، ويضفي عليها ثراء خاصا، يجلانها تقف شامخة بجانب التجارب العربية المتطورة.
عموما، وبغض النظر عن التمايزات الداخلية للتجارب المساهمة في هذه الممارسة الإبداعية، يمكن إجمال مختلف هذه الرهانات في النقط التالية:
ـ التعبير عن الواقع المغربي بمختلف تجلياته (اجتماعية/سياسية/حضارية/تاريخية..).
التعبير عن قضايانا القومية المشتركة، فكرية، السياسية، والحضارية (فلسطين/الهوية الحضارية/صراع الشرق والغرب..).
ـ المساهمة في ترسيخ الكتابة الروائية، كجنس أدبي دخيل، في التراث العربي.
ـ إيجاد كتابة روائية مغربية متميزة، تجسد الخصوصية المحلية شكلا ومضمونا.
ـ العمل على تدارك السبق المشرقي، والغربي أيضا، في هذا المجال.
ـ إضافة للرغبة في التعبير عن بعض الهموم والانشغالات الذاتية الخاصة، في بعدها الإنساني العام.
تلكم بعض رهانات الكتابة الروائية المغربية، كما عنت لنا من خلال استقراء واقع هذه الممارسة الإبداعية في مختلف تجلياتها. حاولنا بسطها، في هذا اللقاء العلمي المبارك، رغبة في إظهار حجم الأعباء والمسؤوليات الملقاة على كاهل روادها، إنصافا لهم على ما بذلوه، وتشجيعا لهم، في الوقت ذاته، على مواصلة الطريق لربح الرهانات المتبقية، وما أكثرها في مجال الكتابة الروائية عامة، والمغربية منها على وجه الخصوص.